رجال ومواقف .. عثمان بن مظعون .. شريك في المحنة , زعيم في الزهد
كاتب الموضوع
رسالة
البلد : نقاط : 200480 تاريخ التسجيل : 01/01/1970
موضوع: رجال ومواقف .. عثمان بن مظعون .. شريك في المحنة , زعيم في الزهد الأحد أغسطس 29, 2010 10:20 pm
رجال ومواقف - عثمان بن مظعون.. شريك في المحنة, زعيم في الزهد
سامح محاريق - بنو جمح بن عمرو أحد بطون قريش التي لم تكن تنافس على السيادة أو تفرض نفسها بصورة قوية على الخريطة الاجتماعية في مكة، ويمكن أن توصف بأنها كانت تمثل بصورة أو بأخرى الطبقة المتوسطة في القبيلة المتنفذة في الحجاز، من هذه الخلفية تحرر عثمان بن مظعون من الأوهام القرشية التي دفعت بدين الآباء الوثني ليصبح عائقا أساسيا في مواجهة الدعوة الإسلامية، وحقيقة الأمر هي نظرة ضيقة تمثل تخوفا عصبيا من فقدان الحظوة والهيمنة في مواجهة أبناء عبد المطلب تحديدا والهاشميين بصورة أكثر عمومية، كان بنو جمح يقفون على مسافة واحدة من الأجنحة القوية في القبيلة أبناء عبد العزى وعبد الدار وزهرة وتيم ومخزوم، لم تكن هذه الاعتبارات واردة لدى ابن مظعون وهو يلتحق في مرحلة مبكرة بالإسلام، فقبله ثلاثة عشر شخصا ممن قبلوا الدعوة، ولكن هذه المعادلة حكمت وضعه بعد أن أصبح الإسلام العامل الأساسي المحرك لحياة قريش وأحداثها في السنوات التالية. ايمانه أتى استجابة لرؤيته الشخصية التي جعلته يتجنب الكثير من الممارسات اليومية في الحياة القرشية وخاصة شرب الخمر التي رفضها لذهابها بالعقل ودفعها الرجال للتصرف برعونة وخفة، إلا أن ذلك كله لم يكن شيئا ذا أهمية بالنسبة لقبيلته التي اتخذت منه موقفا عدوانيا ومتشددا، فالإسلام لم يكن بالنسبة لأقربائه إلا حلقة من الصراع على الزعامة وإن يكن في صورة مختلفة لم تعتدها فاهمتها، وتعرض عثمان كشأن المسلمين الأوائل للنبذ والاقصاء والإهانة، ليس بالدرجة التي تعرض لها بلال بن رباح أو غيره من مهمشي مكة، وإن كانت هذه المرحلة تركت في نفسه الكثير من الآثار السلبية التي نفرته من النظام السائد في مكة، وجعلته يستعجل الخروج منها في الهجرة الأولى للحبشة التي كان أميرها في مهمة محددة هي الاحتفاظ بشريحة ممثلة للإسلام في ظل تصاعد الاضطهاد والتنكيل بالمسلمين في مكة، إلا أن تجربة الهجرة الأولى أجهضت على أساس الأخبار المغلوطة التي وردت عن إسلام أهل مكة مما دفع المهاجرين ليعودوا إلى ديارهم في الوقت الذي كانت قريش تتحين تلك العودة لتعمل على تأديب المهاجرين الذين انتمى معظمهم لبيوتها الكبيرة. لم يطق ابن مظعون هذه الوضعية التي هدفت ليس لتأديب المسلمين وتعذيبهم وإنما لإذلالهم بطريقة فجة، لذا لم تكن الخيارات كثيرة أمامه فتخير أن يستجير بالوليد بن المغيرة، وبغض النظر عن مواقف الوليد تجاه الإسلام والمسلمين إلا أن شخصيته لم تكن لتخرج أحدا من جوارها، وعلى أساس ذلك الجوار تمكن ابن مظعون من الحياة في مكة دون أن يتعرض لأي نوع من الأذى لفترة، إلا أن مشاهدته لإخوانه من المسلمين ممن رافقوه في هجرة الحبشة يتعرضون لما يتجاوز الطاقة البشرية، لذلك توجه لمجيره الوليد يطلب أن يعفيه من الجوار وعلانية ليكون عرضة كغيره لينال نصيبه من المحنة، كان الوليد صادقا في جواره وحاول أن يثني عثمان عن قراره ولكن رغبته في أن يكون مسلما كاملا في الممارسة بعيدا عن أية اعتبارات تجعله يتمسك بهيبته القبلية، فالمحنة هي الحالة المشتركة بين جميع المسلمين ولن يكون على نفس الدرجة معهم إلا بأن يعلن خروجه وبراءته من جوار الوليد ويكون في صفهم حتى النهاية. عادت الدوائر عليه لتدفعه لهجرة أخرى إلى الحبشة ومنها إلى المدينة بعد بيعة العقبة، وفي المدينة أخذ يتوجه للزهد والعبادة، فيصل الليل والنهار في صلاة وتسبيح، فهو يدرك بؤس هذه الدنيا وضيقها ويخشى على المسلمين منها، ابتعد عن جميع المتع الدنيوية حتى اقترب من حدود الرهبنة فحرم على نفسه الكثير حتى الرفث لزوجه، فأتت وصية الرسول الكريم إن لأهلك عليك حقا لتضع الحدود الفاصلة بين الواجبات الدينية والدنيوية دون أن تسمح بأن تطغى أي منهما على الأخرى، فهي حالة من التكامل في الشخصية التي ترى تحققها الدنيوي وخلاصها الأخروي مرتبطان في مفهوم الخير العائد على الجماعة والقيمة المضافة للعمران، الدين الذي أتى ليخرج الإنسان من عدميته التي جعلته ينكب بأنانية على ذاته ويعتبر العالم بأسره كعكة عليه أن يسعى لقضم الحصة الأكبر منها ولو على حساب الآخرين. تمكن ابن مظعون في السنوات القليلة التي قضاها في المدينة بعد الهجرة أن يعيد بناء نظرته للحياة فلم يعد يعني بالمسافة التي تقربه أو تبعده عن أحد، فهذه المقاييس الاجتماعية تنتمي كلية إلى معايير دنيوية، بينما ما يهمه الآن هو قربه أو بعده من الله، حالة من الانفصال والاندماج الاجتماعي في آن، فالاقتراب من الله في المفهوم الإسلامي هو مجموعة من الاعتبارات المتعلقة بالفرد ومجتمعه، بتقديره لواجباته وحقوقه على نفسه وعلى الآخرين، وبذلك وصلت تجربته الزهدية إلى آفاق جعلته يمثل نموذجا متفردا في مجتمع المدينة، وفي تلك الأثناء يرحل ابن مظعون ووراءه تراث كبير من الحب والتقدير في صفوف الصحابة، وقبلهم الرسول الكريم الذي غسله وكفنه وصلى عليه وبقي يذكره دائما بخير ولعل الكلمات الأخيرة التي رثاه بها هي التعبير الدقيق لشخصية ابن مظعون وحياته: ((رحمك الله يا عثمان ما اصبت من الدنيا ولا اصابت منك شيئا)) فكان ابن مظعون أول من يموت من المهاجرين في المدينة وأول من يدفن بالبقيع من أصحاب الرسول.
رجال ومواقف .. عثمان بن مظعون .. شريك في المحنة , زعيم في الزهد