البلد : نقاط : 200480 تاريخ التسجيل : 01/01/1970
| موضوع: في النفس والمجتمع ... المرآة العجيبة داخل نفوسنا الثلاثاء أبريل 26, 2011 8:30 am | |
|
في النفس والمجتمع ... المرآةُ العجيبةُ داخلَ نفوسنا
إبراهيم كشت
هناك، في بُقعة سحيقةٍ عميقةٍ من نفس كل إنسان، ثمّة مرآةٌ عجيبة، تقْبعُ قرب منطقة اللاوعي، لا يمكنك أن تقول فيها إنها مجرّد مرآةٍ مقعرةٍ أو محدّبةٍ، تُكبّر الصورة أو تُصغرها أو تُظهرها مقلوبة، ففعل هذه المرآة العجيبة يتعدى ذلك، إنها تشبه فيما تُظهره من صور تلك المرايا السحرية التي تتحدث عنها الأساطير وقصص الأطفال. فقد ينظرُ الشخص ذاته فيها فيرى صورة غيره من الناس ! وقد يستخدمها كما يستخدم مرآة السيارة الجانبيّة في النظر لما حوله ومن حوله، فإذا به يرى نفسه ! أو يرى الآخر فيها قزماً، أو يراه عملاقاً ! إنها مرآة غريبة فعلاً، لكن الأغرب من ذلك أننا نصدّق الصور التي تظهر فيها أكثر مما نصدّق الأصل، وأكثر مما نصدّق الحقيقة الموضوعية، ينظر كل منا في هذه المرآة العجيبة التي يندر أن تكون مستوية، فتعكس له صوراً مُحرّفة أو مشوّهة أو معدّلة أو مقلوبة أو صوراً غير الأصل، فيراها كأنها الحقيقة التي لا مراء فيها ولا باطل يأتيها، ويتصرّفُ في حياته على هديها. فما سر تلك المرآة العجيبة ؟ وكيف تتشكل فيها هذه الصور ؟ ولِمَ تقوم بتحريف الحقيقة على هذا النحو ؟ والأهم من ذلك لِمَ نصدّقها ونفهم كثيراً من الأمور ومن وحي صورها ؟ لكي لا أتمادى في المجاز والتشبيه، سأسوق بعض الأمثلة، حيث أن المثال خير ما يوضح علاقة الفكرة بالواقع، فمن الأمثلة على هذه المرآة السحرّية العجيبة ما يتحدث عنه علم النفس الاجتماعي ضمن بعض مفاهيمه ومصطلحاته مثل : الاتجاه الانصافي، ومفهوم الاضطهاد، والشرعنة (اضفاء الشرعية) وسواها، فضمن هذه المفاهيم يرى الجاني والظالم والمعتدي نفسه ضحية ! ضحية ظلم الآخر وتعدّيه، وبالتالي فإن ما يقوم به من اعتداء وتجنٍّ وظلم للآخرين مُبررٌ ومشروع، لأنه بمثابة الدفاع عن النفس واستعادة الحق والذود عن الكرامة. إذن فالمعتدي ينظر إلى تلك المرآة العجيبة فيرى الصورة مقلوبة، إنه يرى نفسه بريئاً، بل ضحية، وأكثر من ذلك فهذه المرآة السحرية تستبدل صورته الحقيقية المشوهة وتظهر له مكانها صورة الضحية المظلومة، وهي بذلك تُبرّئه أمام ضميره من العدوان وتضفي صفة العدوان على الآخر ! وفي عملية (الاسقاط) المعروفة في علم النفس كوسيلة من وسائل الدفاع الأولية، يقوم الشخص بإضفاء كل ما يزعجه من صفات ورغبات ونزوات ومشاعر وأفكار موجودة في داخله فعلاً على الآخرين، يقوم بالصاقها بغيره من الناس دون أن يشعر، فترى الخائن يتهم الناس بالخيانة، والكاذب ينعي على الناس كثرة كذبهم، والمرتشي يكثر من الحديث عن الاستقامة في الوظيفة، والسارق (يُنظِّر) في موضوع الأمانة، والمرأة التي تُسبب لها رغباتها الجنسية المكبوتة قلقاً تتمادى في الحديث عن قلة الأدب والاحتشام لدى الجيل الصاعد.. وهكذا. إنها إذن تلك المرآة العجيبة ينظر فيها الشخص نفسه، فتقوم (أي تلك المرآة) بواجبها بحمل كل العيوب والتشوهات والأفكار غير المرغوبة وإلصاقها بصورة أخرى واظهارها للناظر، فتُريحه من قلقه وتضمن له احترام ذاته. وفي حياتنا الاجتماعية نستمعُ إلى كثير من الناس ونرقبُ سلوكهم، فنراهم مقتنعين بعظيم مكانتهم، وعلو شأنهم، وشدة أهميتهم، مع علمنا بأن حياتهم سلسلة من الفشل، وأن إمكاناتهم محدودة، وقدراتهم ضئيلة، وانتاجهم يسير، وإبداعهم معدوم، لكنها المرآة إياها تفعل فعلها في تكبير صورة الناظر اليها كيف تشاء. وقد تستمع إلى هؤلاء وهم يتحدثون عن الآخرين فإذا بالناجح في نظرهم فاشل، وإذا برفيع الشأن في رأيهم وضيع، وإذا بالمبدع في عيونهم غبي.. إنها المرآة كذلك قد ينظر فيها الشخص إلى الآخرين فيراهم أقزاماً ضمن وسيلة الدفاع التي تسمى في علم النفس بالتقليل من شأن الآخرين، أي الحطِّ من قيمة من نجح حيث فشلنا. والمرآة العجيبة هذه لا تقوم بفعلها عبثاً، فالإنسان لا يستطيع أن يعيش بدون قيمة واعتبار ذاتي، ولا يحتمل أنواع الإحباط والصِّراع المختلفة التي يتعرض لها، ولا يطيق القلق الذي ينجم عن ذلك، كما أنه لا يحبُّ أن يُقرَّ بما يعتمل في أعماق نفسه من رغبات ونزوات عدوانية وجنسية تخالف معتقداته وأخلاقه وأعراف مجتمعه، فيلجأ إلى وسائل أولية للاحتماء من القلق ومشاعر الذنب وتهديد تماسكه الداخلي والنيل من قيمته الذاتية. ويبدو أن للمرآة العجيبة عدة أدوار فعالة في تنفيذ عدد من هذه الوسائل الأولية. كما يبدو أن هذه المرآة العجيبة تمارس معظم أدوارها في منطقة اللاشعور أو اللاوعي أو العقل الباطن، حيث الميول والنزوات البدائية التي لا تراعي المنطق ولا تعرف حدود الزمان والمكان، وتتحكم دون أن ندري في الكثير من مواقفنا وتصرفاتنا وأحاديثنا وعلاقاتنا، وتُلبسُ نفسها احياناً لبوس العقل والمنطق. والمهم أن النفس البشرية تتكون من الوعي واللاوعي، واللاوعي خفيٌّ والوعي ظاهر، وهي كالجبل الجليدي الجزء الظاهر منه أصغر بكثير من الجزء الخفي المطمور تحت الماء. هذا على مستوى الفرد، أما على مستوى المجتمع فأتخيّلُ أن ثمة مرآة عجيبة هائلة، أتصورها مثل المرايا العملاقة المستخدمة في التلسكوبات الفضائية، ينظر إليها المجتمع فتعكس له صوراً سحرية عجيبة، فالأمم المتخلفة اقتصادياً وسياسياً وثقافياً وعلمياً، والتي لا تسهم في التقدم البشري بشيء، ويقتصر دورها على التلقي واستخدام مخترعات الأمم الأخرى، مثل هذه الأمم تنظر في تلك المرآة فترى نفسها أعظم الأمم وأهمها، ومركز العالم ومحطَّ اهتمامه. ثم تنظر إلى المجتمعات التي تسجل عشرات الآلاف من الاختراعات في العام الواحد وتتفوق اقتصادياً وعكسرياً وعلمياً وثقافياً، فتراها مجتمعات غبية منحلّة.. إنها مرآة عجيبة فعلاً. واضحٌ أن أهم دور تقوم به هذه المرآة هو (السَّتْر)، ستر عورات الأفراد والمجتمعات أمام ذواتهم وأمام الآخر، لأنَّ تعرية النفس فظيع، وعلى حد قول الأستاذ أحمد أمين في فيض الخاطر فإن (تَعرّي النفس كتعرّي الجسد كلاهما شنيع). لذلك فإن فهم الذات، وتحليل الأعماق، وتقدير النفس حق قدرها، ليس مجرد ضرورة، وليس مجرد نضوج، لكنه فضيلة أيضاً.
| |
|