البلد : نقاط : 200490 تاريخ التسجيل : 01/01/1970
| موضوع: السلوك الراقي .. سمو وإرتفاع الخميس يناير 29, 2009 1:53 pm | |
|
السلوك الراقي.. سمو وارتفاع
يوحي مفهوم السلوك الراقي بارتباطه الإيجابي بالأذهان ، بمعنى أن إطلاق سمة الرُّقي على شخص أو سلوك أمر يقصد به المدح ، ويراد به صفة مقبولة ومستحسنة ومطلوبة ، خاصة أن لفظ الرقي نفسه يومئ من الوجهة اللغوية إلى السمو والارتفاع.
إبراهيم كشت - من العبارات الجارية على ألسنة الناس ، المتداولة في أحاديثهم ، أن يقالَ عن شخصٍ ما بأنه (راقٍ) ، أو يوصف سلوك ما بالرُّقي ، أو تُنعتَ عائلة أو فئة ما بأنها تتسم بسمة الرُّقي هذه ، وقد لفتني هذا اللفظ واستوقفني (أعني لفظ الرقي) ، وحاولت تتبُّعِ مدلولاته ، والبحث عن المعاني التي يرتبط بها ، والصورة التي يُعبّر عنها عندما يُضْفيهِ الناس على سلوك أو شخص أو جماعة 0 رغم أني لم أجد في معاجم علم النفس أو علم الاجتماع أو الفلسفة ذكراً لكلمة (الرُّقي) هذه ، كما لم أجد ضمن ما أتيح لي الاطلاع عليه من كتابات ما يشير إلى مدلول هذا اللفظ أو معانيه ، مع وجود بعض الإشارات إلى الرقي والترقي بمعنى التقدم الذي تتصف به الأمم والحضارات ، وهو معنى يختلف عن المعنى المقصود في حديثنا عن السلوك الراقي هنا ، رغم ذلك ، فإن تداول اللفظ بين الناس ، واتفاقهم على أُطُرٍ عامة وعوامل مشتركة تدلُّ على معناه ، ووجود مجموعة من الصفات والمعاني ترتبط به ، كل ذلك يجعل منه (مفهوماً) ، على اعتبار أن كلمة (مفهوم) تشير في إحدى معانيها إلى جملة الصفات التي يثيرها استخدام اللفظ ، مضافاً إليه المعاني التي تلزم عنها لزوماً منطقياً ، وفقاً لرأي الفلاسفة . والحقيقة أن مجرد إطلاق اسم (الراقي) على نوع من السلوك أو نمط من الناس ، هو اعتراف بوجود هذا السلوك أو النمط ، وتمييزه ووجود معانٍ له ، فالاسم هو بداية التعريف ، وهو إشارة إلى وجود مفهوم ، أي وجود جملة من الصفات التي يُثيرها استخدام اللفظ ، وسأحاول هنا تقصّي هذه الصفات وجمعها لتوضيح ملامح مفهوم السلوك الراقي وأبعاده وأعماقه ما أمكن ، ومن خلال عدة إشارات . الإشارة الأولى التي يوحي بها مفهوم السلوك الراقي ، هو ارتباطه الإيجابي بالأذهان ، بمعنى أن إطلاق سمة الرُّقي على شخص أو سلوك أمر يقصد به المدح ، ويراد به صفة مقبولة ومستحسنة ومطلوبة ، خاصة أن لفظ الرقي نفسه يومئ من الوجهة اللغوية إلى السمو والارتفاع. والإشارة الثانية ، هي أن مفهوم السلوك الراقي مفهوم مركب ، فهو يقتضي اجتماع عدة صفات خاصة في شخص معين أو في سلوك محدد كي يقال عنه أنه راقٍ ، فقد يطلقُ وصف الأدب أو اللطف أو اللباقة أو حُسن المعشر على كثير من الناس ، غير أن لفظ الرقي أندر استخداماً ، لأن من يُطلَقُ عليه ، أو ما يُطلَقُ عليه هذا الوصف ، أكثر تفرُّداً وتميُّزاً ، وأكثر سمواً وارتفاعاً . إذن ، فالسلوك الراقي في مفهومه المرتبط بالأذهان يتكون عادة من مزيج متجانس من عدّة عناصر ، ولهذا المزيج جوهر ومظهر ، وأهم هذه العناصر التي تُشّكل السلوك الراقي : احترام الذات ، واحترام الآخر والاهتمام به ، والاتزان في ردود الأفعال ، وهدوء النظرات والملامح والحركات ، والصوت الخفيض الذي يتضمن الدفء ، واللطف وحسن المعشر ، واللباقة في التصرف ، وتحري أصول الاتيكيت والأدب ، والترفع عن التوافه ، والبعد عن لغو الحديث والألفاظ السوقيّة ، واجتناب الصراخ والحركات الانفعالية التي تنم عن التهجّم والعدوانية 0 كما يوحي الرقي بالتسامح ، وبالمواقف التي تدل على كبر النفس والسمو ، والنأي عن التكلف والتصنع والزيف والادعاء والتظاهر . ولو أنه طُلِبَ من مخرج سينمائي مثلاً أن يختار شخصيتين أحدهما لتمثيل دور الإنسان الراقي والآخر لتمثيل شخصية نقيضه ، فلا شك أنه سيرسم صورةً لنقيض الراقي في شخصية ممثل يؤدي دوره بصوت عالٍ وبعدوانية في نبراته وألفاظه وملامحه وحركات جوارحه ، ويفتقد حديثه لكلمات اللطف والمجاملة ، وينظر دائماً للآخر على أنه خصم ، فيقف منه موقف الدفاع أو الاتهام أو الهجوم والتهديد ، ويخلو حديثه وتصرفه من الرفق والتهذيب واللباقة 0 بينما سيرسم هذا المخرج معالم صورة الشخصية الراقية ويشرحها للممثل على أنها تتسم بهدوء الصوت والملامح والنظرات والحركات ، وتتحلى بالنضوج في التعامل ، والتوازن في الانفعالات ، والنظر الى الآخر من خلال قاعدة (أنا صالح أنت صالح) 0 أما الإشارة الثالثة التي ترتبط بها صورة السلوك الراقي في مدلولها ، فهي الجمال ، فتعابير الشخص الذي يفتقر إلى الرقي في سلوكه من حيث ما في صوته ونظراته وردود أفعاله وتعامله مع الآخر من عنف ظاهرٍ أو خفيّ ، هي أقربُ إلى القبح ، أما تعابير ذو السلوك الراقي بما فيها من وُدٍّ في سيماء الوجه ودرجة الصوت والنبرة ومعاملة الآخر ، فإنها تحمل صورة الجمال. وهذه الحقيقة تمثل مدخلاً جيداً في تربية الأبناء والتلاميذ على رقي السلوك كقيمة سامية ، فحين يرتبط سلوك ما في أذهانهم بالقبح الممجوج فإنهم يعافونه ، وحين يرتبط بالحُسن والجمال ، فإنه يستسيغونه ، وربما يولعون به ، وعلى رأي بعض المفكرين : فإذا كان منبع السلوك هو الأفكار ، فإن منبع الأفكار هو الاحساس بالقبيح والحسن ، أي الاحساس بالجمال وتذوّقه ، والشعور بالقبح والنفور منه.
منقول
| |
|