غالب هلسا .. المبدع الذي أخذته المدن وغيبته المنافي
كاتب الموضوع
رسالة
البلد : نقاط : 200490 تاريخ التسجيل : 01/01/1970
موضوع: غالب هلسا .. المبدع الذي أخذته المدن وغيبته المنافي الخميس سبتمبر 18, 2008 10:29 am
غالب هلسا.. المبدع الذي أخذته المدن و غيبته المنافي
هزاع البراري - غالب هلسا ، كاتب من نوع خاص، ابتلعت سنوات عمره مدن الشتات ، و المنافي البعيدة ما بين مسقط رأسه وقبره الصغير ، فكان مرهوناً للابتعاد والترحالات التي لم تقف حتى أوقفه الموت ، فكان طالب حرية منذ نعومة شبابه ، وقد دفع ثمن فكره وآرائه السياسية على مدى أيام عمره ، فعاش غريباً ووحيداً وانتهى بصمت أشد تأثيراً من احتجاجاته على الواقع وانكسار الحلم. فغالب القروي العتيق ، الذي لم تكشط عنه المدن الكبيرة التي توزعته لون التراب ، ولم تجفف من قلبه البراءة والصدق والعواطف الجياشة، كان بسيطاً، صاحب حلم صاغ مسيرة حياته من أول النبوغ وحتى آخر نفس يغادر جسده في احد مشافي دمشق ، فغالب المادباوي ولد في قرية ماعين إحدى قرى محافظة مادبا الشهيرة ، وهي القرية التي تحتفظ بسر شلالات المياه الساخنة التي عرفت بزرقاء ماعين ، والمنحدرة صوب البحر الميت . ولد في 18/كانون الأول عام 1932م ، في منزل والده المنتصب على ربوة تنفتح على المدى الواسع والسهول الخصبة ، وهي البيئة المفعمة بالبساطة، والزاخرة بالأحداث والمفارقات ، التي أسهمت في تفجير الطاقات الكامنة لديه ، فحاول الكتابة مبكراً ، واللافت أنه حقق تميّزاً منذ محاولاته الأولى في كتابة القصة القصيرة. عانى غالب هلسا من اضطهاد الطلاب الأكبر سناً ، لنبوغه في الدراسة و لكونه الطالب الأصغر سنا في الصف دائما ، ولعل هذا أثّر فيه ودفعه للكتابة في عمر صغيرة ، فلقد بدأ دراسته في مدرسة ماعـين الابتدائية ، وأكملها في مدارس مادبا ، أما دراسته الثانوية فقد أتمها في مدرسة المطران في عمان ، مما اضطره لمغادرة قريته من أجل هذه الغاية ، وفي سن الرابعة عشر شارك في مسابقة للقصة القصيرة، وفاز بالجائزة الأولى التي خصصت لها مبلغ سبعة دنانير ، وقد نشرت مجلة المدرسة أولى مقالاته، وانكب على قراءة الفلسفات القديمة والحديثة ، وانفتحت آفاقه على ما يدور في المنطقة والعالم من أحداث وتحولات ، واختلط مع عدد من أصحاب الفكر والمواقف السياسية ، وأعجب بالاشتراكية التي قادته فيما بعد للإنخراط في الحزب الشيوعي. بعد حصوله على الثانوية بتفوق عام 1950م ، إرتحل إلى بيروت حيث قبل في الجامعة الأمريكية ، ورغب في دراسة الصحافة ، ولكن اندفاعه نحو الأنشطة السياسية المختلفة أدت إلى ملاحقته واعتقاله ، فاضطر إلى العودة للأردن ، حيث انتسب إلى الحزب الشيوعي الأردني عام 1951م ، في فترة كانت فيها الظروف المحلية والخارجية غاية في التعقيد ، وقد استمرت أنشطة غالب هلسا وآرائه المناوئة ، فقد اعتقل وسجن أكثر من مرة ، وفرضت عليه الاقامة الجبرية في مدينة مادبا ، وكذلك اعتقل في العراق عندما انتقل اليها بين عامي 1951-1954 لإنتسابه إلى التنظيم الطلابي التابع للحزب الشيوعي العراقي ، ورحل بعدها إلى الاردن ، التي لم يلبث أن غادرها إلى القاهرة ، والتحق بالجامعة الامريكية ليدرس الصحافة كما رغب دائماً ، وتمكن من إنهاء دراسته عام 1958م. تعد القاهرة المدينة التي حظي فيها بالاستقرار النسبي ، حيث عمل أولاً في وكالة الصين الجديدة للأنباء ، ووكالة الأنباء الألمانية تالياً ، وأنهمك في مشروعه الكتابي الابداعي ، الذي أعتبر من أكثر الروائيين الأردنيين إلفاتاً ، وتمكن من احتلال مكانة أدبية عربية مرموقة ، جعلت من أعماله محطة لدراسة النقاد ومتابعة الكتّاب ، واستطاع أن يؤثر في جيل كامل من الروائيين والقاصين العرب فيما عرف بجيل الستينيات . وخلال هذه الفترة أصبحت كتابته أكثر نضجاً وتميزاً ، كان خلالها يعمل في كتابة الروايات والقصص والترجمة . وتعد إقامته في القاهرة هي الأطول في حياته، حيث استمرت وبشكل متواصل قرابة الثلاثة وعشرين عاماً، ولم يتخلّ عن آرائه ونهجه طوال هذه المدة ، فلقد تدرب تدريباً عسكرياً عام 1956 م منخرطاً بذلك مع المقاومة الشعبية المصرية في الإسماعيلية، في مواجهة العدوان الثلاثي على مصر ، والذي قامت به كل من بريطانيا وفرنسا واسرائيل، نتيجة لإعلان مصر تأميم قناة السويس . في العام 1966م سجن لمدة ستة اشهر لإشتراكه في أنشطة المنظمات اليسارية المصرية ، لكن معارضته لنهج وسياسة السادات أدت الى توقيفه ، حيث أجبر على مغادرة مصر عام 1976م. شدّ غالب هلسا الرحال صوب بغداد من جديد ، حيث نشط في كتابته الإبداعية والصحفية، خاصة في مجلة الأقلام العراقية التي يصدرها الحزب الشيوعي العراقي ، وبعد ثلاث سنوات من إقامته في بغداد ، انتقل الى مدينة بيروت أولى المدن التي ارتحل اليها ، وهناك عاش تجربة الحصار والمقاومة ، وخاض الحرب الطويلة كصحفي يتنقل من خندق إلى خندق . وبعد اجتياح لبنان من قبل اسرائيل، وخروج المقاومة الفلسطينية الى المنافي الجديدة ، غادر غالب هلسا بيروت الى عدن على ظهر سفينة حملت مجموعة من المقاومين الفلسطينييين عام 1982م ، ومنها وصل الى اثيوبيا ، حيث سافر من هناك الى برلين ، لكنه لم يلبث أن عاد إلى دمشق عام 1983م واستقر فيها فكانت رحلته الاخيرة. لقد كانت حياة غالب هلسا مثالاً لمرحلة مضطربة عصفت بالبلاد العربية ، وكسرت فيها أحلام أجيال من الشباب المتعلم والمبدع ، فالمدن المختلفة ضاقت ذرعاً بغالب الذي فاق بحجمه الإبداعي ومكانته الأدبية أفق المدن المتوترة ، وقد عدّ غالب من الكتّاب غزيري الانتاج ، فلقد نشر في الرواية : (الضحك) 1971، (الخماسين) 1975 ، (السؤال) 1979، (البكاء على الأطلال ) 1980، (ثلاثة وجوه لبغداد ) 1984، (سلطانة) 1987 (الروائيون) 1988، وله مجموعتان قصصيتان هما : ( وديع والقديسة ميلاده) 1969، و ( زنوج وبدو وفلاحون) 1976، وله ترجمات وكتابات نقدية وفكرية متعددة. وفي نفس يوم ميلاده توفي غالب هلسا في 18/كانون الاول عام 1989م في دمشق ، حيث عانى من وحدة وشعور بالغربة في آخر أيامه ، وتم نقل جثمانه ليورى الثرى في عمان ، التي عاد إليها هذه المرة ليستقر إلى الأبد . في العام الماضي تم منح غالب هلسا جائزة الدولة التقديرية في الرواية، تقديراً لمكانته الأدبية وما حققه في مجال الرواية من منجزات يشار اليها بالتقدير والثناء ، وهو الذي لم يغب عنه المكان الأردني ولم تفارق القروية أعماقه و لا أعماله الروائية والقصصية ، فهو اليوم يعد علامة في الساحة الثقافية المحلية والعربية ، فاعماله الخالدة تبقيه حاضراً بيننا وإن أخذته المدن وغيبه الموت.
منقول
غالب هلسا .. المبدع الذي أخذته المدن وغيبته المنافي