موضوع: البخاري .. العالم الذي لم يذل العلم الثلاثاء سبتمبر 30, 2008 5:36 pm
البخاري ..العالم الذي لم يذل العلم
تأتي السنة النبوية في المرتبة الثانية في الإسلام بعد القرآن الكريم، ويمثل الحديث الشريف جانبا عظيما من هذه السنة، ومصدرا رئيسيا في التشريع والفتوى تصديقا للآية الكريمة فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ، ولكن العمل على جمع السنة أتى متأخرا فانصب التركيز في زمن الرسول ؟ صلى الله عليه وسلم ؟ وخلفائه الراشدين على جمع القرآن، وخشي الرسول الكريم أن يختلط الأمر على المسلمين بين حديثه وبين كلام الله عزوجل، ولكن هذا السبب كان قد زال بعد جمع القرآن بين دفتي المصحف، ونظرا لأن الدولة الإسلامية أصبحت مترامية الأطراف في العصر الراشدي والأموي، فإن الحاجة إلى جمع الحديث وتصنيفه أصبحت ملحة، وإن كانت دائما مهمة صعبة تحتاج رجالا من طراز خاص من حيث تأهيلهم العلمي وإخلاصهم لهذه المهمة الجلل التي تبلغ من الصعوبة مداها. وهيأ الله عزوجل لأمة الإسلام أحد هؤلاء الرجال في مطلع القرن الهجري الثالث وهو الإمام محمد بن اسماعيل البخاري الذي ولد في مدينة بخارى في أوزباكستان سنة 194 هجرية، وينتمي البخاري إلى أصول فارسية ولكنه استطاع أن يندمج في الثقافة العربية والتربية الدينية منذ طفولته، التي نشأها يتيما في بيت علم وكرم، ومن الله على البخاري بمقدرة مذهلة على الحفظ وتمايز عن أقرانه في العلم والدرس بقدرته على حفظ الأحاديث النبوية الشريفة، واستطاع أن يحفظ وهو في سن مبكرة معظم كتب الحديث التي توفرت له. ما إن بلغ من العمر مبلغا يمكنه من السفر حتى شد رحاله في رحلة طويلة لطلب العلم، وكانت مكة المشرفة والمدينة المنورة وجهته، وبقي يتنقل بين المدينتين لست سنوات يتلقى العلم عن كبار الأئمة في الحرمين، وبدأ مشروعه في تدوين الحديث من هناك وكذلك تعددت أسفاره بين مشارق الدولة الإسلامية ومغاربها ليجمع الأحاديث، ومن ثم بدأ عمله الكبير في تحقيق هذه الأحاديث وتصنيفها، وكانت الرحلة الكبيرة للبخاري تستهلك من الجهد ما تنوء به العصبة من الرجال، حتى أنه يذكر ذلك ويقول كتبت عن ألف ثقة من العلماء وزيادة، وليس عندي حديث لا أذكر إسناده ولنا أن نتخيل العدد الذي لم يعتمده البخاري من المحدثين لأسباب تتعلق بشكه في صحة روايتهم. كنتيجة لهذا العمل الكبير ألف البخاري كتابه الذي يعد أكثر الكتب تأثيرا في الإسلام بعد القرآن الكريم وهو الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه، المعروف بالجامع الصحيح أو صحيح البخاري، والذي ضم سبعة آلاف ومائتان وخمسة وسبعون حديثًا بالمكرر، ومن غير المكرر أربعة آلاف حديث، صنفها البخاري على حسب الموضوع وضبط سندها واستحسن المتن بين مختلف الروايات. وللبخاري أيضا العديد من الكتب المهمة مثل التاريخ الكبير والتاريخ الصغير والأدب المفرد، وبرغم الجهد الكبير الذي بذله البخاري في حياته وشعبيته بين عموم المسلمين الذين قدروا دوره العلمي إلا أنه لم يكن في موضع حظوة وتقدير لدى الحكام والولاة فتعرض للنفي والاضطهاد، ويذكر التاريخ موقفه من والي بخارى خالد الدهلي الذي طلب منه الحضور إلى مجلسه فرد البخاري: قل له إنني لا أذل العلم ولا أحمله إلى أبواب السلاطين، فإن كانت له حاجة إلى شيء فليحضرني في مسجدي أو في داري، فإن لم يعجبك هذا فأنت سلطان، فامنعني من المجلس ليكون لي عذر عند الله يوم القيامة أني لا أكتم العلم . توفي البخاري في الثلاثين من رمضان سنة 256 هجري في إحدى قرى سمرقند وهو متمسك بهيبة العلم وقدسيته دون أن يتهافت وراء الدنيا وعرضها الزائل، وخلف وراءه أهم كتاب في الإسلام بعد القرآن الكريم.