البلد : نقاط : 200490 تاريخ التسجيل : 01/01/1970
| موضوع: الوضوح .. قيمة تستحق منا إهتماما أكبر الثلاثاء فبراير 23, 2010 4:33 pm | |
|
الوضوح .. قيمة تستحق منا اهتماماً أكبر
إبراهيم كشت - رغم أن (الوضوح) من القيم ذات الأثر والأهمية في الحياة الإنسانية، وبخاصة في مجالات اللغة والاتصال والمال والأعمال والاقتصاد والسياسة، ورغم أن لغياب هذه القيمة آثاراً سلبية نفسية واجتماعية على مستوى العلاقات، وعلى مستوى حياة المجتمع كلها . فإني أَحسَبُ أن ما حظي به (الوضوح) كقيمة ومفهوم من اهتمام ودراسة وبحث ما زال قليلاً، ويحتاج إلى المزيد . وفي محاولة لتفسير معنى الوضوح ودلالاته وأبعاده، أسوقُ عبارة موجزة ورائعة، أوردها الفيلسوف الفرنسي لالاند في موسوعته الشهيرة، يقول فيها (الواضح هو ما يكون ظاهراً، ويقدّم نفسه بنفسه) . فعلاً، الواضح يكون ظاهراً لا خفياً، معلناً لا سريّاً، بيّناً لا متوارياً ولا محتجباً، ولا مختبئاً خلف ستار، إنه كما الشمس الساطعة في كبد السماء الصافية عند الظهيرة في يوم صيفي . والواضح كذلك يقدّم نفسه بنفسه، فهو ليس مبهماً ولا غامضاً ولا ملتبساً، ولا يثير الحيرة ولا الشكّ والتساؤل، ولا يستعصى على الفهم . ولعل من الجوانب النفسية المهمة المتعلقة بموضوع الوضوح، أن الإنسان بطبيعته لا يطيق الغموض ولا يحتمله، فإذا وجد نفسه أمام ظاهرة أو حدث أو واقعة لم يستطع فهمها، راح يستكمل الصورة من خياله، ويقدم تفسيراً من عند نفسه، ثم يُصدِّقهُ، ويكون بذلك قد تغلب على الغموض المنكود، ووصل إلى ما يحسبه الوضوح المنشود . ألم ترَ كيف أن الإنسان القديم كان يعجز عن تفسير المرض مثلاً، فيفترض له أسباباً من عند نفسه، ويرد البلاء للأرواح الشريرة وغضب الآلهة والدم أو الهواء الفاسد، ثم يروح يتعامل مع افتراضاته كأنها حقيقة، لأنها أراحته من الغموض وأوصلته إلى ما يعتقده وضوحاً . وهذا ما نجده كذلك عند المجتمعات التي تغيب عنها المعلومة، حيث تلجأ الى نشر الإشاعة وتصديقها سعياً منها لإزالة الغموض الذي يحيط بالأحداث والوقائع من حولها، أو تروح تفسر تلك الأحداث من خلال نظرية المؤامرة كطريقة تريحها أيضاً من الغموض وتشعرها - ولو كذباً - بالوضوح . على مستوى اللغة، نقول عن العبارات إنها واضحة، إذا كانت تعبِّرُ عن الموضوع وتبين مضمونه، ومداه، وتميزه عن سواه، بحيث نفهم منها ما أُريد الأخذ به وما أُريد تركه، دون أن تدع مجالاً للشكِّ في معناها، ودون أن تحمل مدلولات متضاربة، أو يتداخل مفهومها بمفاهيم أخرى مشابهة . وربما لهذا السبب نجد أن العلوم والفنون التي تهتم باللغة العربية قد سُمّيت بأسماء تدلّ على الوضوح، فالبيان مثلاً من (بان) بمعنى اتضح وظهر، والفصاحة من (فصح)، حيث يقال فصح الصبح بمعنى بان واتضح ضوؤه، ويؤيد هذا الفهم قول الجاحظ في حديثه عن البيان (كلما كانت الدلالة أوضح وأفصح، وكانت الإشارة أبين وأنور، كان أنفع وأنجح). وللوضوح في مجال الاتصال الإنساني أهمية عظيمة، فسواء أكانت الرسالة الاتصالية لفظية منطوقة أو مكتوبة، أم كانت غير لفظية بالإشارة أو اللمحة أو الابتسامة أو النظرة أو الإعراض أو سوى ذلك . فإن لوضوح هدف الرسالة ومضمونها الأثر الأكبر في وصول المعنى من المرسل إلى المتلقي (المستقبِل)، لذلك فإن العلم الذي يدرس الاتصال الإنساني يهتم ببحث أنواع التشويش والمعوِّقات التي تحول دون وصول الرسالة بوضوح، سواء أكانت هذه المعوقات نفسية أم تنظيمية أم تقنية أم اجتماعية وثقافية . وينبغي أن لا يستهان بالأثر المترتب على عدم وضوح الرسالة في عملية الاتصال، لأنها تسبب كثيراً من المشاكل على مستوى العلاقات في الأسرة والعمل والمجتمع بوجه عام، وكذلك في مجال التعليم والإدارة وسواها . أما على مستوى المال والأعمال والاقتصاد والسياسة، فقد ظهر قبل سنوات قليلة مصطلح جديد ليعبِّر عن الوضوح كقيمة ومفهوم، وهو مصطلح (الشفافية)، وصار استخدامه شائعاً وواسعاً في شتى ضروب الخطاب والإعلام . وأصل لفظ الشفافية بطبيعة الحال ذو مدلول مقتبس من علم الفيزياء، فالشفافية في الفيزياء هي خاصية السماح للإشعاعات بالمرور من خلال مادة معينة . فإذا كان الزجاج شفافاً مثلاً فإن مرور الأشعة من خلاله تسمح برؤية ما خلفه بوضوح. وعلى ذلك استخدم تعبير الشفافية ليعني الإفصاح وإتاحة المجال للناس للاطلاع على المعلومات، مع الانفتاح على الجمهور والاطلاع على التغذية الراجعة منهم، وكل ذلك يتيح مجالاً أوسع للمحاسبة التي تغيب غالباً في ظل التكتّم والسرية والغموض . وقد قامت مؤسسات عالمية ومحلية مهمتها رعاية الشفافية، وهي تنظر إليها كأهم وسيلة للحد من الفساد ومكافحته بمختلف أنواعه . كما بات لفظ الشفافية أساساً في ترويج الشركات والمؤسسات العامة والخاصة والأحزاب لنفسها، بحيث أصبحت تُدْخِلُ مصطلح الشفافية في استراتيجياتها وبرامج عملها، حتى صار يُخشى أن يتم النظر إليها (أُعني إلى الشفافية) كشعار وليس كقيمة ومعنى لهما دلالات وتطبيقات . وبعد، هناك عبارات جميلة وموحية للروائي حنا مينا يعبر فيها بصورة أدبية عن أهمية الوضوح والشفافية وأثر غيابهما، وقد أوردها في روايته (الرجل الذي يكره نفسه) ويقول فيها : حين تصير الأشياء في الضّوء، تستنير بأشعّة الشّمس، تتطهّر، أمّا عندما تظلّ في العتمة، فإنّها تتعفّن، وتنبعث منها رائحة كريهة ، وللرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر أيضاً عبارة تؤدي معنى قريباً من هذا المعنى يقول فيها : التأكيد على السريّة سيجعلها، إن آجلاً أو عاجلاً، أداةً لتغطية الأخطاء .
| |
|