البلد : نقاط : 200480 تاريخ التسجيل : 01/01/1970
| موضوع: محاولة لتحليل الشعور بالندم إلى عوامله الأولية الثلاثاء فبراير 23, 2010 4:25 pm | |
|
محاولة لتحليل الشعور بالندم إلى عوامله الأولية
إبراهيم كشت - خطر لي أن أتوقّف للحظات، لأتأمل في ماهيّة الشعور بالندم، وأتفكّرَ في العناصر التي يتألف منها، والمعاني التي ينطوي عليها، فبدا لي أن الندمَ شعورٌ غريب فعلاً، فهو مركَّبٌ، متعدد الدلالات، إذ أن مجرد إحساس المرء بوخز الضمير حيال فعل قام به (أو امتنع عنه) يتضمن عناصر متعددة، تمتزج جميعها في لحظة واحدة لتشكل هذا الشعور، وربما كان أول عنصر يدخل في جوهر الندم، هو ذلك الإقرار النفسي الخفيّ من قبل النادم بأنه كان يملك حرية الاختيار، وأنه كان أمام أكثر من بديل، لكنه لم يختر بديلاً صائباً، أي أن في الشعور بالندم اعترافاً مبدئياً من قبل الإنسان بأنه يحوز الإرادة، وبأنه مخيّر وليس مُسيّر . فحين يكون أي شخص مقتنعاً بأنه لا يملك الإرادة، وبأنه مكرهٌ تماماً على الفعل، وليس له فيه خيار، فإنه لن يشعر بالندم بطبيعة الحال . أما العنصر الثاني الذي يدخل في صلب الندم وتكوينه فهو الإقرار بالمسؤولية، فالنادم لا يعترف بأنه أخطأ الاختيار وحسب، لكنه يحسُّ أيضاً بمسؤوليته عن هذا الاختيار أو القرار الخاطئ، وعن السلوك الذي ترتب عليه . فإذا كانت المسؤولية تعني تحمل تبعات الفعل، فإن النادم يشعر على الأقل بأنه يستأهل ما حاق به من الحسرة والأسى نتيجة فعله الذي ندم عليه . وفي ذلك أيضاً دلالة عن أن شعور الإنسان السويّ بمسؤوليته عن أفعاله جزء من فطرته وتكوينه . والعنصر الثالث في الندم هو تمني الشخص النادم لو أن ذلك السلوك الخاطئ لم يقع، إنه يتمنى لو يستطيع شطب هذا الفعل الذي ندم عليه من ماضيه . وهذا تمننٍ لا يمكن أن يتحقق بطبيعة الحال ؛ لتعلّقه بالماضي، ولعل في مجرد تمني الإنسان شيئاً بشدة، مع إدراكه لعدم إمكانية تحققه، ألم قائم بحدّ ذاته . أما العنصر الرابع الذي ينطوي عليه الندم بطبيعته فهو عزم المرء على عدم تكرار الفعل الذي ندم عليه، أي أن الندم بمثابة توبة مبدئية، منطلقة من الذات التي كرهت الفعل الخاطئ، وتألّمت بسببه، ورغبت في أن لا يُعاد ولا يتكرر . وربما كان خامس العناصر التي يتألف منها الندم في تركيبته هذه، هو ذلك الحزن والألم والحسرة التي تترافق معه، والتي قد تكون مجرد وخزة عابرة حيناً، أو إحساساً مُمِضّاً وموجعاً أحياناً، أو فيضاً من مشاعر عارمة قاسية تملأ النفس بالكآبة العميقة في أحيان أخرى . وكثيراً ما يترافق الندم كذلك مع عنصر آخر، وهو الرغبة بالتكفير عن الخطأ من خلال سلوك إيجابي، كالاعتذار، أو الاستعداد لتلقي العقوبة المترتبة على الخطأ، أو القيام بأعمال خيّرة قد تعوض عن آثار الفعل الذي ندم الشخص عليه . هذا هو الندم إذن، قد يبدو بسيطاً، لكنه في حقيقته تركيبة من العناصر، ومزيج من الإقرارات والاعترافات والمواقف النفسية والتمنيات والرغبات والنوايا والمشاعر. وأعتقد أن الندم على الخطأ بمفهومه هذا شعور طبيعي فطري مولود مع الإنسان، وإن كان متفاوتاً بين شخص وآخر في شدته وتأثيره من جهة، وقابلاً للتأثّر بالثقافة السائدة من جهة أخرى، فمخالفة قواعد السلوك السائدة في المجتمع تبعث بحد ذاتها على الندم وتزيد من حجمه، كما أن إباحة الثقافة لبعض الأفعال رغم مجافاتها للحق والخير قد يمحو أو يقلل الشعور بالندم، أو يساعد في تقديم تبريرات للفعل الخاطئ. لقد كنتُ قرأت ذات مرة في كتاب (الكلام أو الموت) للأستاذ مصطفى صفوان، إشارته إلى التحليلات التي تتضمن وجود قانون طبيعي يحظر القتل بالنسبة للإنسان، ويولّد الاعتداء على هذا القانون شعوراً بالذنب والندم دائماً، حتى وإن وقع القتل على الأعداء، وقد كان هذا الشعور موجوداً حتى لدى المجتمعات المُغرِقة في البدائية، بدليل طقوس التطهير التي كان يخضع لها المحاربون المنتصرون بعد عودتهم من الحرب، فبالرغم من أن الثقافة الاجتماعية تبيح قتل العدو، إلا أن قانون حظر القتل يظل يفعل فعله كقانون طبيعي فطري يبعث تجاوزه على الندم . ويتحدث المتخصصون عن وجود منطقة في الدماغ تقع خلف الجبهة مباشرة وتحديداً فوق محجرالعين يزداد نشاطها في حالة الندم، وعند وجود خلل في تلك المنطقة لا يحس الشخص بمشاعر الندم أبداً ..! ولعل في ذلك ما يشير أيضاً إلى أن الإحساس بالندم جزء من طبيعة الإنسان، تطوّر بتطوره، وإن كان يتأثر بالثقافة والبيئة المحيطة التي تزيد من حساسية هذا الشعور أو تقللها . على أية حال، صحيح أن الشعور المفرط بالندم، واستمراره، وتحوله إلى كآبة مستديمة، أمر سلبي وخارج عن السَّواء، لكن الشعور الطبيعي بالندم دليل على رسوخ الخير في فطرة الإنسان، كما أنه سبب للامتناع عن الشرور خشية الندم بعد القيام بها، وباعث على التوقف عن السلوك الخاطئ، ودافع لاتخاذ القرار بعدم العودة إليه .
| |
|