البلد : نقاط : 200490 تاريخ التسجيل : 01/01/1970
| موضوع: محاولة لتفسير العواطف بين الجنسين الأحد أكتوبر 05, 2008 12:51 pm | |
|
محاولة لتفسير العواطف بين الجنسين
إبراهيم كشت - العواطف تتسم عادة بدرجة عالية من الاستمرارية والإلحاح، والسيطرة على المشاعر والأفكار، وخلق العديد من الانفعالات القوية. وتسمى بالحبُّ الذي يطلق عليه اسم (الغرام) أو (العشق) أو (الهوى) أو (الهيام)، أو سوى ذلك من التعبيرات التي تزخر بها قصائد الغزل، ولاسيما العُذريّة منها. ويبدو أن للحديث في موضوع هذا النوع من الحبّ وقعاً خاصاً في النفوس عادة، ربما لأنه يلامس غرائز وحاجات نفسية دفينة، أو يحرك خيالات وذكريات وأمنيات حميمة. ولك أن تلاحظ مثلاً مدى استحواذ أي مشهد غرامي عاطفي، في فيلم أو مسلسل تلفزيوني، على انتباه الناس، وشدّهم إليه، والظفر بتركيزهم عليه، بغض النظر عن أعمارهم وأجناسهم، حتى أن كثيراً من الكتاب والروائيين و المخرجين، يدركون هذه الحقيقة، فيستخدمونها كعنصر جذب وتشويق في الرواية والدراما. يتسم الحبُّ، بمعناه الذي تقدم، بعدة خصائص، قد تتفاوت في مدى قوتها وتأثيرها ووضوحها من شخص لآخر، ومن جنس لآخر، ومن حالة لأخرى، فهو يتصّف بوجه عام بشحنات عالية وكثيفة من الانفعالات والمشاعر، التي تفوق في نوعها وكمّها الوضع العادي وتتجاوز حالة التوازن، ومن ذلك الشوق، والغيرة على المحبوب، والخوف من فقدانه أو هجره أو استئثار أحد آخر به، وكذلك الحاجة لذلك المحبوب، والإعجاب به، والرغبة في إرضائه، والفرح للقائه، والحزن لفراقه أو غضبه أو إِعراضه، والحساسية المرهفة نحو موقفه منا، وشعوره نحونا، إضافة إلى ما قد ينجم عن هذا الحب من سعادة مفرطة حيناً، أو ألم قاسٍ أحياناً، أو حتى تلذذ بالألم في بعض الأحيان. وربما كان هذا السيل المتدفق من الانفعالات التي تفيض في الوجدان، وتبحث عن وسائل التعبير، ربما كان مفسّرا لتلك المساحة الكبيرة التي احتلها موضوع العشق في التراث الإنساني على مرِّ العصور، ولاسيما في الشعر والنثر وسائر ضروب الفن، ولعلّ هذا التدفق العاطفي والزخم في الشحنات الانفعالية المرافقة للحب هي التي جعلت التعبير الفني والأدبي عنه مُتّسماً غالباً بالصدق الشعوري من حيث منطلقه، وبالإبداع من حيث بنائه وشكله، وبالتأثير الشديد من حيث مفعوله وامتداده. ومن الخصائص التي يتسم بها الحبّ الذي يقوم بين الجنسين كذلك ما يسمى في علم النفس بسيطرة الفكرة الواحدة، إنه اختصار الحياة كلها بشخص هذا المحبوب، فموضوع المحبوب وصورته لهما حضور دائم يسيطر على التفكير والخيال معظم الوقت، والحديث في شأنه والانصات لما يقال عنه غاية، والشعور الناجم عن غضبه ورضاه أو بعده وقربه هو الذي يصبغ نظرة المُحبِّ لكل ما حوله، بل للحياة جُّلها بحاضرها ومستقبلها، فهذا المحبوب هو القيمة العظمى، وربما القيمة الوحيدة التي تتضاءل أمامها كثير من القيم، وكأن لسان حال المحبِّ يردد باستمرار : (فليتك تحلو والحياة مريرة.. وليتك ترضى والأنام غضاب). ويمكنك أن تلمس سيطرة الفكرة الواحدة هذه بشكل جليّ في حالات الحبّ المتفاقم بشكل شديد، كما في حالة قيس بن الملوح مثلاً الذي بات يربط كل شيء حوله بليلى، فبصير القوم يحدِّثهُ عن كوكب بدا في السماء، فيردُّ قيس (بل نار ليلى توقّدت بعليا.. تسامى ضؤوها فبدا ليّا) ويريد قيس أن يصلي لكنه بالرغم من إيمانه وعدم إشراكه كما يقول يتجه في صلاته نحو ليلى (أراني إذا صليت يممتُ نحوها.. بوجهي وإن كان المُصلّى ورائيا) فكأنها الحقيقة الوحيدة في الوجود بالنسبة إليه، ولا يريد حتى أن يستمر في الحياة بدونها (خليليِّ إن ضنوا عليّ بليلى فقرِّبا... لي النعش والأكفان واستغفرا ليا). وثمة خاصية أخرى تلمسها في الحب بمعناه الذي تقدم، وهي أنه يقوى ويزداد كلما واجهته المعيقات والعقبات فكأنه يعمل على أساس قاعدة علم النفس التي تقول (زيادة الإحباط تزيد من قوة الدافع) حتى قيل أن قصص العشق التي خُلّدت ورويت وتناقلها الناس وحفظت أشعارها، هي قصص العاشقين الذين أحاطت ظروف البيئة الإجتماعية بهم وحالت دون لقائهم الدائم وفرّقت بينهم، كما في قصص الشعراء العذريين مثلاً وأشعارهم المعروفة، إذ ليس منهم من ظَفِرَ بمحبوبته أو تزوجها (وهل تُراه كان سوف يستمر بقرض الشعر فيها لو تزوجها؟). حتى تلك الإحباطات التي قد لا تأتي من البيئة الخارجية وإنما تكون ناتجة عن الخلافات والغيرة المتبادلة وعقدة الخوف من الهجر والتشاحن، قد تزيد من الحب ولا تضعفه، وعلى رأي نزار قباني (برغم.. برغم خلافاتنا.. برغم جميع قراراتنا.. بأن لا نعود.. برغم العداء.. برغم الجفاء.. برغم البرود.. برغم انطفاء ابتساماتنا.. برغم انقطاع خطاباتنا.. فثمة سر خفي يوحّد ما بين أقدارنا..). ويتسم الحب، بعد هذا وذاك، بذلك الغموض الذي يلفّهُ عادة، فكأن علامات الاستفهام الملازمة للعشق لم تجد لها إجابات، رغم كل هذا التراث الإنساني من الفن والأدب والدراما الذي تناول الحب بالوصف. وربما تلمس هذا الغموض من خلال ما يثار حول الحب عادة من أسئلة، وبخاصة على ألسنة المراهقين واليافعين والشباب، فهم يسألون دائماً : هل هناك حب حقيقي؟ وهل هذا الذي أحسُّ به يسمى حباً أم أني أتوهم الحب؟ وهل يستمر الحب بعد الزواج؟ وهل يمكن أن ينقلب الحب إلى بُغض؟ هل يمكن أن يحب الشخص اثنين (اثنتين) معاً؟ هل صحيح أن الحب لا يكون إلا للحبيب الأول؟ هل يمكن أن يأتي الحب بعد الزواج؟ هل نبحث في الحب عمّن يشابهنا أم عمّن يخالفنا فيكُملنا؟ ألا يختلف الحبُّ في ظل ثقافة ما عما هو في ظل ثقافة أخرى؟ لماذا يرتبط التعبير عن الحب في المجتمعات التي تعيش الحريّة بالسعادة والعطاء والفرح عادة، ويرتبط في المجتمعات العربية غالباً بعبارات مثل (أضناني، أضواني، شفّني، أطال سهري، أشقاني)، أو يرتبط بتعبيرات مثل (الصدّ، الهجر، الجوى، النوى، الفراق..) ولماذا يرتبط في كثير من الأحيان بوصف المحبوب بعبارات مثل (معذبتي، قاتلي، يا ظالم)، بل لماذا يُعبَّرُ عن الحب بالتهديد والوعيد على نمط (إبكي مش حأرحم عينيك، اشكي مش حسأل عليك). على أية حال فإن كثيراً من هذا الغموض يمكن أن يفسره عمق ارتباط الحب بتلك الغريزة القوية الأساسية التي تحملها الكائنات الحية في سعيها إلى الحفاظ على النوع، مع الخضوع لقانون الانتخاب الطبيعي بكل أحكامه، إضافة لتأثيرات اللاوعي العميقة في علاقات الحب، وفقاً لما سنبين بإيجاز في الفقرات التالية. يرى أتباع المذهب الرومانسي أن الفنان أقدر من الفيلسوف أو المفكر أو العالم على التعبير عن بعض الأشياء في الحياة، وأعتقد أنهم محقون في ذلك، فالشاعر والأديب والممثل والمخرج والرسام لا شك أكثر قدرةً على التعبير عن الحبّ بمعناه الذي تقدم، لكنهم ليسوا أكثر قدرة على تفسيره. وحين يكون الحديث عن الحبّ رومانسياً وفنياً وأدبياً وتصويرياً ورمزياً وموحياً، يكون قريباً من النفس ومقبولاً، أما حين نفسره على حقيقته كغريزة وجهد في سبيل البقاء وحفظ النوع واختيار الأفضل، فقد يكون في الحديث ما يُنفِّر البعض، أو لا يستهويهم على الأقل. لا أحسبُّ أن ثمة خلافاً على أن الغريزة في سعيها للتكاثر وحفظ النوع هي المنطلق الأساسي للحب بين الجنسين، بدليل توجّه هذه العاطفة إلى الجنس الآخر، وتوجه غايتها نحو الحياة المشتركة ثم الانجاب، إلا أن للحب ميزة فهو يختار فرداً دون سواه، كما أنه يترافق مع فيض من الانفعالات الأخرى التي تميز عاطفة الحب عن غيرها بشكلها الخام الذي يتجه للجنس الآخر بوجه عام. ومن وجهة نظري المتواضعة فإن الحب بين الجنسين أحد الأدوات التي يستخدمها قانون الحياة القوي، أعنى قانون الانتخاب الطبيعي بُغية إبقاء الأفضل، ففي الحب انتقاء لشخص نعتقد عادة أنه الأفضل وفقاً لما قد تدلُّ عليه هيئته أو حيويته أو سلوكه أو تأثيره، فإذا اخترناه بدأنا بمحاولات الوصول إليه، وأَحطناه بالغيرة والخوف، وبذلنا أشياء كثيرة وتضحيات لأجل الظفر به، ولو اقتضانا الأمر التنافس مع الآخرين على ذلك، فإن وجد ذلك المحبوب فينا ما يستحق الانتقاء كان الاختيار من قبله أيضاً، وكانت عملية التكاثر وحفظ النوع بالتالي قائمة على أساس انتقائي، وربما بعد تنافس يُظهِرُ الأقدر والأقوى، وليس على أساس الغريزة بشكلها الخام وحسب.
منقول
| |
|