موضوع: ثقافة الإلحاح ! الأحد فبراير 21, 2010 8:59 pm
ثقافــــــة الإلحــاح !
إبراهيم كشت
أَزعم أن (الإلحاح) نمط سلوك شائع في مجتمعنا، نمارسه في بعض جوانب حياتنا، على نحو يعبر عن ثقافة راسخة، ربما تنجم عن الاعتقاد بأن قرار الطرف الآخر الذي نتعامل معه قابل دائماً للتبدّل وليس حاسماً، أو قابلٌ لأن تَردَ عليه استثناءات . أو أن موقف هذا الآخر ليس صادقاً، أو أن ظاهره لا يشير إلى حقيقة ما في دخيلته . وبالتالي فإننا نريد منه، ومن خلال الإلحاح، أن يتخذ الموقف الذي يتناسب مع الحقيقة، أو مع ما نرغب به . أو ربما نقصد بهذا الإلحاح التأكيد على صدقنا فيما ندعو إليه، لأن في نفسنا شكاً بأن الطرف المقابل لا يصدقنا ..! خذ مثلاً على ما تقدم، ذلك الإلحاح الذي نتفنن في ضروبه في أثناء الضيافة، وعند تقديم الطعام . فها هو المدعوّ إلى طعامنا يُعلن شبعَهُ ويعبر عن شكره . لكننا نلح عليه بأن يملأ صحنه من جديد، أو يتناول حبة أخرى من فاكهة أو حلوى أو سواها . أو يذوق من هذا ويجرِّب ذاك، فيُعلمنا بعدم رغبته، وربما عدم قدرته على أن يستزيد، لكننا نلح، وربما نقسم عليه، (بس هالنتفه) و(هاي مشاني) و(اللهِ بزعل) . وقد يكون هذا السلوك معبِّراً عن الكرم أو الاهتمام أو الحفاوة بالضيف . لكني أعتقد أن لسان حال من يلحُّ على أحد في طعام أو دعوة كأنما يقول للطرف الآخر : أنت لستَ صادقاً في رفضك، فإنك ترغب بهذا الطعام أو الشراب، ولكنك تتمنع لخجل أو عزة نفس أو رغبة بالمزيد من الإلحاح . ولو كانت الثقة والصدقية والوضوح قائمة ومتوافرة، إذن لاكتفى المضيف بالعرض، واكتفى الضيف بالرد بالقبول أو الرفض . ثم إن سلوك الإلحاح في الدعوة للولائم، أو الإلحاح على تناول المزيد من الطعام والشراب، ربما كان متناسباً مع أفكار وقناعات سادت ثمَّ تبين خطؤها . فقد كنا نطلق على الشخص ظاهر البدانة تعبير (صحته كويسة)، وكنا نخشى عليه من الحسد، وكانت أمه تسعى في زيادة سُمنته إن كان طفلاً أو فتى، كما كان يعتبر حجم الأفعال متناسباً طردياً مع كمية الطعام ! فكان يقال مثلاً : (أكل رجالها قد فعالها) . أما وقد بين العلم أخطار زيادة الوزن، وأثر السُمنة في المرض والتسبب بالموت، وبات كثير من الناس يتبعون حِميةً أو نظاماً غذائياً لأسباب متعددة، فإن الإلحاح في الطعام صار يشكل في بعض الأحيان إحراجاً، أو سبباً في إضعاف عزيمة الشخص المقابل على الالتزام ببرنامجه الغذائي . ومن المجالات الأخرى التي تبرز فيها ثقافة الإلحاح تعاملنا مع القوانين والأنظمة والتعليمات والقرارات الصادرة عن الجهات الرسمية، أو مع من ينفذون القانون، لاعتقادنا في كثير من الأحيان أنها ليست باتة، أو ليست نهائية قاطعة، وأن ثمة إمكانية دائماً للاستثناء، وإمكانية لتغيير القرارات نتيجة الضغط بالإلحاح والمراجعة . أو لاعتقادنا بأن هذه القرارات ذات بعد شخصي وليس قانوني، وأن للعاطفة دوراً فيها، أو دوراً في تغييرها. وقد يكون لهذه الاعتقادات ما يبررها أحياناً، فثقافة الإلحاح يتسبب بها في كثير من الأحيان طرفا العلاقة كلاهما، وليس واحد منهما وحسب . ومَثَلُ هذا الإلحاح الذي تقدم، أن يكون لشخصٍ طلبٌ لدى دائرة رسمية، كالحصول على ترخيص لممارسة مهنة مثلاً، فيصدر القرار بالرفض لعدم استيفاء الشروط من الوجهة القانونية . لكنه لا يقتنع، ويظل يراجع ويُلح، ويصرُّ على مقابلة الموظف الأعلى، والمدير المسؤول، ويسأل عمّن يمكن أن يؤثر في أصحاب القرار، أو يبدل من آرائهم، تعبيراً عن الشعور والاعتقاد بأنه لا يتعامل مع قانون واضح وتعليمات محددة وقرارات حاسمة، بقدر ما يتعامل مع أهواء نفسية واعتبارات شخصية . وكما ذكرنا، فقد يكون السبب في نشوء ثقافة الإلحاح هذه وترسّخها، عائداً للمسؤول صاحب القرار وللمواطن الملحاح نفسه، أحدهما أو كلاهما . ومن صور الإلحاح الأخرى التي نلمسها في مجتمعنا، ذاك الذي يمارسه بعض الباعة، سواء في المتاجر، أو إذا كانوا باعة متجولين، أو مندوبي مبيعات أحياناً . وهو إلحاح قد يصل حدّ التسبب لك بالضيق والحرج، وربما يجبرك على شراء ما لا ترغب فيه، أو ما لم تقتنع به أساساً، هذا إذا كانت تجارب الحياة لم تعلِّمك كل فنون عدم التأثر بالإلحاح الذي يصل حدَّ اللزوجة، مشفوعة بكل سبل الإقناع، القائمة غالباً على الخداع والتخجيل والإحراج والضغط . وذلك ما يثير تساؤلك أحياناً عن السبب الذي يجعل الشراء في متاجر الدول المتقدمة أبسط وأسهل وأكثر احتراماً لحريتك، فهم يتبعون كل وسائل الترويج لإقناعك بشراء السلعة أو الخدمة، أو حتى لخلق الطلب والرغبة فيها لديك، لكن دون أن يكتموا على نفسك بالإلحاح اللصيق الدبق .