موضوع: عباس محمود العقاد الخميس سبتمبر 03, 2009 12:41 pm
عباس محمود العقاد
سامح المحاريق - يستحق عباس محمود العقاد لقب الأستاذ الذي أطلقه عليه أصدقاؤه وزملاؤه ممن عرفوه عن كثب، ومن ثم أصبح لقبا شائعا بين جميع قراء العربية في مرحلة الخمسينيات والستينيات، فقلما كان يمكن لأحد أن يذكر اسمه دون أن يرفقه بصفة الأستاذية، ومع أن العقاد لم يكمل من الدراسة سوى المرحلة الإبتدائية إلا أن إطلاعه المكثف على مختلف أنواع العلوم والفنون أكسبه ثقافة موسوعية ليكون أشهر كاتب بجانب عميد الأدب العربي طه حسين في النصف الأول من القرن العشرين. ولد العقاد في مدينة أسوان سنة 1889 وكانت ملامحه خليطا بين ملامح أهالي هذه المدينة وبين أجداده من الأكراد، مع قامة طويلة ومهيبة وصوت أجش يقترب من القسوة، لم يتمكن لظروف مادية من تخطي المرحلة الابتدائية من الدراسة ولذلك اقتصرت حياته في مرحلتها الأولى على بعض الأعمال الكتابية البسيطة، فعمل في مصنع للنسيج وفي مصلحة السكة الحديد ومصلحة البرق، وكان في تلك الأثناء ينصرف كلية لقراءة كل ما يقع تحت يديه من الكتب، فينفق كل ما يتبقى من دخله بعد أن يلبي حاجاته الأساسية البسيطة لاقتناء الكتب، شجعته ثقافته الواسعة على الالتحاق بالعمل الصحافي، واقترب من حزب الوفد الذي بقي مخلصا لمبادئه حتى وفاته، واشترك مع مجموعة من المثقفين في تأسيس مدرسة الديوان التي سعت إلى إحداث نقلة نوعية في التجديد الشعري، فالعقاد كان شاعرا قويا وإن عابه التكلف وكذلك كان من أوائل من آمنوا بالرواية العربية ودورها في تطوير الأدب العربي، فوضع أكثر من رواية نالت منها رواية سارة شهرة معقولة. للعقاد مجموعة كبيرة من الدراسات في التاريخ الإسلامي أهمها سلسلة العبقريات التي قدم فيها مدخلا حديثا وعالميا للتعرف على شخصية النبي الكريم وأصحابه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضوان الله عليهم، وله أيضا مجموعة من الدراسات في الإسلام والقضايا المعاصرة فقدم عن الديمقراطية في الإسلام و الإسلام في القرن العشرين، وكذلك كتاب التفكير فريضة إسلامية الذي أبدى فيه معرفة كبيرة بالفلسفة والمدارس الفكرية المختلفة، وقدم العقاد للمكتبة العربية كتابا عن عبقرية المسيح عليه السلام، وأكثر من دراسة نقدية مهمة طبق فيها النظريات الحديثة في التعاطي مع النص الأدبي في زمانه مثل دراسته عن الشاعر العباسي أبو نواس والشاعر عمر بن أبي ربيعة. عاش العقاد زاهدا في الأضواء والتكريم فرفض جائزة الدولة التقديرية والدكتوراه الفخرية من جامعة القاهرة، وفضل أن يلتقي بمريديه في صالونه الشهير الذي كان ينعقد في منزله لمناقشة مختلف القضايا الأدبية والفكرية والسياسة وبقيت مكانته تمثل منارة ثقافية ومدرسة فكرية تخرج منها الكثيرون من الكتاب ليس في مصر ولكن في مختلف أنحاء العالم العربي، واستمر في عطائه متواصلا حتى وفاته سنة 1964.
من كتاب «التفكير فريضة إسلامية»
فلسفة التاريخ، وفلسفة اللغة، وفلسفة الأخلاف، وفلسفة الرياضة، وغيرها من أنواع الفلسفة مصطلحات حديثة يراد بها البحث في النظريات والأفكار التي تقوم عليها تلك العلوم، أو البحث في النظريات والأفكار التي تفسر تلك العلوم وتبين وجهتها وغايتها، ويراد بهذه الفلسفات - إجمالا - إنها دراسات فكرية فرضية غير الدراسات التي تقررت بالوقائع والتجارب المحسوسة من قبيل علوم الطبيعة وما جرى مجراها.. إلا أن الفلسفة التي نعنيها هنا أعم من هذه الفلسفات جميعا لأنها قد تشملها من وجهة النظر في الأصول وتحاوزها إلى البحث فيما وراء الحقائق المحسوسة، مما يسمى أحيانا بالبحث فيما وراء الطبيعة أو البحث في كنه الوجود كله على التعتيم.. ويلاحظ في التاريخ المتواتر أن هذه الفلسفة العامة - فلسفة ما وراء الطبيعة - شاعت في بعض الأمم القديمة وقل شيوعها في أمم أخرى.. ويلاحظ كذلك أن بلاد الدول الكبار لم تكن بيئات صالحة لنشأة هذه الفلسفة ونبوغ فلاسفتها، وأن الأمر لا يرجع إلى اختلاف درجات الحضارة بل إلى أسباب غير هذا السبب، كما يؤخذ من تواريخ الحضارات الأولى.. فالهند ومصر وبلاد ما بين النهرين وبلاد الدولة الرومانية كانت على درجة عالية من الحضارة وعلى حظ وافر من العلوم والصناعات، ولكنها لم تتسع لشيوع الفلسفة كما اتسعت لها بلاد اليونان في عصر من عصورها قبيل ميلاد المسيح، وهي مع ذلك لم تبلغ من الحضارة والعلم والصناعة مبلغ البلاد التي قامت فيها الدول الكبرى وقل فيها شيوع الفلسفة ونبوغ الفلاسفة. والباحثون الأوروبيون يحبون أن يعللوا ذلك بعلة ترضيهم وتدل عندهم على امتياز السلالات الأوروبية بين جميع السلالات البشرية.. يقولون إن طلب المعرفة لمحض المعرفة مزية من مزايا العقل الأوروبي دون غيره بين عقول الأمم من سائر الأجناس وأن الأمم من غير الأجناس الأوروبية تطلب العلم لمنفعة وتهتم بالمعرفة لما تستفيده في معاشها، ولا تهتم بها لأنها مطبوعة التفكير وطلب الحقيقة لذاتها.. ودلائل العصبية العنصرية هنا ظاهرة تكفي لإخراج هذه العلة من عداد العلل العلمية الخالصة لوجه البحث والمعرفة. وقد حدث للأمم الأوروبية أنها حجرت على الفلسفة حين عرضت لها ظروف اجتماعية أو سياسية كالظروف التي سبقتها في الدول الشرقية. فالسبب العنصري هنا قاصر على تفسير العلة في ختلاف إقبال الأمم على الفلسفة، وإنما ترجع تلك العلة إلى أسباب واحدة بين الشرق والغرب، وبين الماضي والحاضر، كلما تشابهت الظروف على تباعد الأزمنة والجهات.. والغالب أن الدول الكبيرة، وهي الدول التي تقوم عادة على الأنهار الكبيرة، تستقر فيها سلطة دينية متوارثة كالسلطة السياسية، وأن هذه السلطة الدينية تستأثر بمباحث العقيدة ومباحث ما وراء الطبيعة ولا تسمح لأحد بأن يزاحمها في المعارف التي تتعلق بالأرباب وأسرار الخلق وأصول الحياة أو أصول الوجود كله على التعميم. وقد وجدت هذه السلطة الدينية القوية في أوروبا بين القرن الثامن والقرن الخامس عشر للميلاد فامتنع ظهور الفلسفة فيها وساد حظ الفلاسفة بين علمائها ومحتكري العلم من أحبارها وكهانها. وحدث قبل ميلاد السيد المسيح أن عبادة الإمبراطور تقررت في الدول الرومانية وأن الدول عرفت سلطان الكهانة بين شعوبها فامتنع فيها ظهور الفلسفة ونبوغ الفلاسفة ولم يكن محصولها منها بأوفر من محصول الفلسفة في دول الحضارات الشرقية، وقامت الدولة الرومانية ثم سقطت وهي عالة على بقايا الفلسفة اليونانية تأخذ منها ما يحسب من فلسفة السلوك والأخلاق وتحجم عما عداه من أبواب الفلسفة المعنية بما وراء الطبيعة وما تخوض فيه من المشكلات والأسرار.. وقد فسر الإسلام هذا الفارق بين الأمم في عنايتها العامة بالفلسفة في طريقته العلمية حين قامت فيه الدولة بغير كهانة، فكانت دولة الإسلام أرحب الدول صدرا وأسمحها فكرا مع الفلسفة على عمومها والفلسفة اليونانية في جملتها، بل كانت الأمة الإسلامية أرحب صدرا وأسمح فكرا مع الفلسفة اليونانية من بلاد العالم اليوناني الذي نشأت فيه، كما يؤخذ من مصائر الفلاسفة من أبناء العالم اليوناني الذي نشأت فيه، كما يؤخذ من مصائر الفلاسفة بين أبناء العالم اليوناني ومصائر الفلاسفة المسلمين وغير المسلمين في بلاد الإسلام.. كان ثالوث الفلسفة الأكبر يتجمع من سقراط وأفلاطون تلميذ سقراط وأرسطو تلميذ أفلاطون، وكان أشهر الفلاسفة بعد هذين فيثاغورس إمام الحكمة الصوفية وزينون إمام الفلسفة الرواقية، وكل من هؤلاء الحكماء - المعبرين عن حكمة عصورهم - قد أصيب في زمنه بمصاب لا يدل على قرار أمين.. فسقراط قضى عليه بالموت، وأفلاطون بيع في سوق العبيد، وأرسطو نجا بنفسه من أثينا خوفا من عاقبة سقراط بعد أن رماه كاهن من كهنتها بالإلحاد، وقيل أنه ألقى بنفسه في البحر وزعم بعض مؤرخيه إنه لم يبخع نفسه فرارامن الاضطهاد، بل غما من تفسير على المد والجزر في البحر الذي ألقى بنفسه فيه.. ونقارن بين هذه الأحوال التي عرضت لأكبر فلاسفة اليونان وبين أحوال الفلاسفة من المسلمين من المشتغلين بالفلسفة اليونانية وهي أجنبية في البلاد الإسلامية فلا نرى أحدا أصيب بمثل هذا المصاب من جراء الفلسفة أو الأفكار الفلسفية، ومن أصيب منهم يوما بمكروه فإنما كان مصابه من كيد السياسة ولم يكن من خروج بالفلسفة أو حجر على الأفكار.. فأشهر الفلاسفة المسلمين في المشرق ابن سينا الملقب بالشيخ الرئيس دخل السجن لأنه كان عند أمير همدان فبرم بالمقام عنده وأراد أن يلحق بأمير أصفهان علاء الدولة ابن كاكويه فسجنه أمير همدان ليبقيه إلى جواره ولم يسجنه عقوبة له على رأي من آرائه.. واشتغل بالفلسفة اليونانية غير ابن سينا أعلام من هذه الطبقة من طراز الكندي والفارابي والرازي، كما اشتغل بها أناس دون هذه الطبقة في الشهرة والمكانة فلم يصب أحدهم بسوء من جراء تفكيره ولم يصدهم أحد على البحث والكتابة إلا أن تستدرجهم حبالة من حبائل السياسة فينالهم منها ما ينال سائر ضحاياها ولو لم يكن أسهم في مذاهب الفلسفة أو الدين.. وربما كمنت السياسة وراء دعوات المتفلسفين كما كانت وراء المصادرة من جانب الدولة وحكامها. لأن الزندقة التي كانت تستر بستار الفلسفة إنما كانت في ناحية من نواحيها ثورة مجوسية ترمي إلى هدم الدولة الإسلامية من أساسها وإقامة الدولة الفارسية في مكانها. وتنسب الزندقة في أرجح الأقوال إلى كلمة زندا التي كانت تطلق على شرح كتاب زردشت وتعليقات الديانة المجوسية، وربما عمد الخلفاء إلى أناس من العلويين فاتهموهم بالزندقة على خلاف المعقول أو المنتظر من أسرة تقيم حقوقها في الخلافة على وراثة النبي عليه السلام والمحافظة على رسالته الدينية، ولكن الشبهة كانت تلحق بهم من الاشتراك في مقاومة الدولة ولو على غير تفاهم بين الفريقين، وكان أعوان الدولة يحشرونهم جميعا في زمرة واحدة لتشويه الحركة العلوية بإلقاء الشبهة عليها من الوجهة الدينية.. أما فيما عدا السياسة وشبهاتها ومكائدها فلم يصادر أحد من المشتغلين بالفلسفة لأنه يتفلسف أو يخوض في بحث من البحوث الفكرية على تشعبها، وما لم يكن هذا المتفلسف عدوا مجاهرا بمحاربة الدين والدولة ونشر الفتنة فلا جناح عليه ولا قدرة لخليفة أو أمير على مصادرته باسم الإسلام..