البلد : نقاط : 200490 تاريخ التسجيل : 01/01/1970
| موضوع: الصبر.. أكثر القيم توافقا مع قوانين الحياة الأربعاء يوليو 02, 2008 11:01 am | |
| الصَّبر .. أكثر القيم توافقاً مع قوانين الحياة
إبراهيم كشت - مضى عليَّ حين من الدهر لم أكن أُدرك فيه قيمة (الصبر)، فكنتُ أحسبُه أحياناً حيلة من لا حيلَةَ له، وأَخالُه في أحيان أخرى ملجأ العاجز للقبول بالوضع البائس والتسليم به والاستسلام له . لكن يبدو أن تجارب الحياة، وملاحظة الوقائع ونتائج الأحداث، والتأمل والقراءة، وتوسُّع مدارك المرء على مرِّ السنين، تَهدي الإنسان إلى فضائل كان يغفل أثرها، ولا يعي عمق وامتداد قيمتها، أو كان يفهمها على غير حقيقتها ومعناها ومرماها . من الخطأ فعلاً أن نفهم (الصبر) على أنه حالة سلبية، أو سلوك يعبّر عن القبول المقترن بالعجز، أو الرضا المصحوب بالإذعان، أو القناعة النابعة عن الاستسلام . فالصبر من حيث ماهيته قدرة وقوة، لا يَحوزُها خائر الهمة، ولا يحظى بها ضعيف العزيمة . وضدُّ (الصَّبر) كما تقول معاجم اللغة هو (الجَزَع)، والجزع يشير إلى معنى عدم القدرة على الاحتمال، أي فقدان المرء للقوة التي تمكنه من أن يثبت ويصمد أمام الآلام والمصاعب والشدائد، حتى أن لفظ (الجزع) بالإضافة لكونه يحمل المفهوم النقيض للصبر، فإنه يفيد معنى تجْزيء الشيء وتقطيعه، فكأنما صورة من يجزع ولا يصبر أمام الشدائد هي صورة النفس التي تتفتت وتتمزق أمام الصعوبات والتحديات. يعبر مفهوم (الصبر) عن معنى حسن الاحتمال والقدرة على الانتظار، وقالت بعض القواميس أنه الانتظار في هدوء واطمئنان . على أية حال يبدو أن للصبر نوعان هما : صبر (على)، وصبر (عن) . أي صبر على الآلام والشدائد، وصبر عن الرغبات إذا كانت متنافية مع الدين أو الأخلاق أو القيم أو الفضيلة، على أن من معاني لفظ (الصبر) أيضاً في اللغة (الحبس) فكأن الصبر كقيمة يشير إلى حبس النفس عن أهوائها التي لا ينبغي أن تأتيها لمخالفتها للضمير والأخلاق والإنسانية . وأعتقدُ أن الصبر من أكثر القيم والفضائل توافقاً مع طبيعة الأشياء وقوانين الحياة، فإذا كان (أي الصبر) يشير إلى معنى قوة الاحتمال والقدرة على الانتظار في هدوء واطمئنان كما يُفهم مما تقوله المعاجم، فإن هذه القدرة والقوة هي أهم ما يحتاجه التكيّف مع سنن الطبيعة، والتواؤم مع نواميسها، لأن عنصر الزمن يدخل في صلب قوانين الحياة والوجود كلها، بحيث لا يمكن الحصول على النتائج دون انتظار فترة من الوقت، فالشجرة لا تثمر إلاّ بعد سنين من غرسها، والحبوب لا تحصد إلا بعد مرور موسم على بذرها، والكائنات لا تلد إلا بعد فترة من الحمل، والإنسان لا يتعلم إلا بعد سنوات طوال يقضيها في الدراسة، والإنتاج لا يكون إلا بعد فترة من العمل، والأهداف لا تتحقق إلا مضافة إلى زمن معين، وهكذا، وكل ذلك بطبيعة الحال يحتاج إلى الانتظار الهادئ المطمئن الذي يشكل أول مقومات الصبر . ومن طبائع الأشياء وقوانين الحياة كذلك أن الحصول على النتائج وإشباع الحاجات الجسدية والنفسية والاستمرار والنمو والتقدم يحتاج إلى جهد ومثابرة، ولأن المثابرة تستوجب المواظبة ودوام الجهد واستمراره فإنها تتطلب الصبر والاحتمال . أضف إلى ذلك أن الحياة بطبيعتها لا يمكن أن تخلو من الحرمان والمشاكل والمآسي، فموت الأحبة والمرض والألم والحزن والإحباط وعدم تحقق الرغبات جزء من الحياة وليست استثناء عليها . ولا يمكن التكيّف على نحو سليم مع هذه الآلام إلا من خلال الصبر . كما أن تحقيق الطموحات بعيدة المدى كثيراً ما يستوجب التضحية بمتع وملذات ورغبات قريبة، يحتاج حَبْسُ النفس عنها الى جلد واصطبار . والصبر كقيمة واسع المفهوم شامل الدلالة، بحيث تنطوي تحت مفهومه العديد من القيم والمعاني والفضائل الأخرى، فالحِلْمُ مثلاً فضيلة أساسها الصبر على أذى الآخرين وجهلهم من باب سعة الصدر وكبر العقل . والهدوء قيمة أساسها الصبر على دواعي الانفعال والرعونة والعصبية، وضبط النفس خُلق أصله صبر على حرمانها مما تتطلبه . أما غياب الصبر فإنك تلحظه كامناً خلف كثير من السلوكات السلبية، فالعصبيُّ الهائج كثير الصراخ يكون قليل الصبر عادة . والمنجرف خلف الملذات والمتع القريبة على حساب الأهداف البعيدة يفتقد إلى الصبر على الحرمان، والشكّاء والبكّاء المتذمر عاجز عن الصبر على حاله، وذاك الذي يفتقد القدرة على الاستمرار في أي عمل أو متابعة إلى جهد إلى نهايته يعوزه الصبر على الجهد والمثابرة ... وهكذا . وبعد، فإن النظر إلى قيمة الصبر على أنها صفة وحالة ايجابية، يقتضي فهمها من خلال كونها قدرة على التحمل، وقوة كامنة في النفس تُمكِّنها من الثبات والصمود، وهدفها التكيف السليم مع قوانين الحياة ومقتضياتها، ولا تعني قيمة الصبر في أي حال إحجاماً عن الفعل الايجابي الهادف إلى تغيير الواقع، وتبديل الحال، والتطلع إلى الأفضل، والسعي نحوه.
منقول | |
|