البلد : نقاط : 200030 تاريخ التسجيل : 01/01/1970
| موضوع: كيف نستدل على القيم السائدة في المجتمع ؟ الجمعة مايو 13, 2011 7:43 pm | |
|
كيف نستدلّ على القيم السائدة فـي المجتمع ؟
إبراهيم كشت - مـن السهل معرفة القيم في مجال الرياضيات، فهي مقدار عددي محدد أو قابل للتحديد، يعبر عنه بدقة من خلال الأرقام، ومن السهل كذلك معرفة القيم التبادلية للسلع والخدمات في المجال الاقتصادي، فهي سعر محدد عند تقاطع العرض والطلب في السوق، ويعبر عنه بالرقم كذلك 0 أما ما ليس سهلاً فهو المعرفة المحددة الدقيقة للقيم الاجتماعية والاخلاقية والدينية والفكرية والسياسية والإدارية 000 التي تسود المجتمع، أو تسود لدى فئة أو مجموعة منه، وتحديد مدى انتشار وتأثير كل قيمة من هذه القيم، لأن من طبيعة هذه القيم أنها لا تُدرَكُ بذاتها، وإنما يُستدل عليها من آثارها 0 وهذه الصعوبة في التحديد أمر واقعي وقائم، رغم ما لهذه القيم من أهمية ودور كبيرين فـي ترجيح البدائل، واختيار بديل والتضحية بآخر، أي أن لها أهميتها ودورها في تبنّي المعايير والأحكام وفي اتخاذ القرارات، وبالتالي في توجيه السلوكات والمواقف، على مستوى الفرد والمجتمع على حد سواء 0 إذا تحرينا التبسيط، ولم نتقيد بمقتضيات التعريف الجامع المانع، يمكننا أن نقول إن القيمة هي كل ما له وزن وأهمية واعتبار وتقدير بالنسبة للشخص، ورغم اختلاف القيم من فرد لآخر، غير أن ثمة تشابهاً واسعاً في القيم التي تسود المجتمع، ويزداد هذا التشابه عندما نتحدث عن فئات من هذا المجتمع أو جماعات معينة لها إطار يميزها 0 وفي كل الأحوال فإن هذه القيم تدخل في صلب ثقافة المجتمع، أي في تكوين الجانب المعنوي من حضارته، وبالتالي فهي تؤثر بشكل كبير في واقعه ومستقبله، ومدى قدرته على التقدم والتطور وتحقيق التنمية المطلوبة 0 ولكي ندرك تأثير القيم في حياة المجتمع وفي إمكانية تطوّره ونموه ورفعته، يمكننا أن نضرب مثلاً مبسّطاً، فلو كانت هناك مؤسسـة صناعية مثلاً، وعُيِّنَ على رأسها مدير جديد، وأراد لها أن تتطور من حيث حجم ونوع إنتاجها، وتسويق سلعها، وتحسين وضع عمالها، وزيادة حصتها في السوق، فإن هذا المدير قد يضع أهدافاً، ويرسم خططاً، ويغير في الهيكل التنظيمي والعلاقات، ويضع أدلة وتعليمات وإجراءات جديدة، ومعايير للرقابة، ومـا إلى ذلك، لكنه سيظل يعاني من المعيقات التي تحول دون وصول الأهداف، إذا كانت القيم السائدة لدى العمال غير متوافقة مع مقتضيات الإنتاج والتطوير، أو إذا غابت عنهم القيم الدافعة لهذا الإنتاج والتطوّر، كأن تغيب من منظومة قيمهم مثلاً قيمـة التّعلُم، أو قيمة الولاء، أو قيمة الإبداع، أو قيمة المحافظة على الوقت، وما إلى ذلك من قيم تؤثر في القرارات والسلوكات 0 مما يوجب على هذا المدير أن يدرس القيم السائدة، والقيم الضرورية الغائبة، ليعمل على التأثير الإيجابي فيها، إن كان يسعى إلى تطوير هذه المؤسسة وتحسين واقعها وإنتاجها فعلاً 0 وهذا المثال يسري على المجتمع كلـه، فلا يكون الخروج من دائرة التخلف إلى التقدم، ومن دائرة الإتكالية إلى الإنتاج، ومن الجمود إلى الانفتاح، ومن التقليد إلى الإبداع، ومن التّطفّل إلى الإنجاز، ومن التكسّب إلى العمل، ولا تكون التنمية بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والصحية والعلمية والثقافية بمجرد سن التشريعات، ووضع الخطط، وتطوير العمران، بل ينبغي أن يرافق ذلك كله السعي إلى تغيير القيم التي تعيق التقدم، وبناء القيم التي تسهم في التنمية والتطوير 0 ومما يؤيد هذا القول ويثبته سرعة التطور الذي شهدته بعض المجتمعات التي كانت قيمها مواتية للإنجاز والتطور والجودة والإنتاج، كما في اليابان وبعض دول شرق آسيا عموماً، بينما ظلت مجتمعات كثيرة تلهث خلف التنميـة والتقدم دون أن تدركه كما ينبغي، رغم طول السنين، بالنظر للقيم غير المواتية للإنتاج والنمو والإبداع والتطور التي تسود تلك المجتمعات 0 المشكلة أن تغيير القيم السائدة فـي أي مجتمع، أو بناء قيم أخرى جديدة، مسألة صعبة، تستغرق عادة وقتاً طويلاً، لأنها تقع ضمـن الجانب المعنوي من حياة المجتمع 0 لكن هذه الحقيقة لا تمنع من القول إن دراسة هذه القيم ومحاولة تحديدها وحصرها وبيان مدى انتشارها وقوتها وتأثيرها مسألة ضرورية، تستحق الاهتمام والعناية وتوجيه الأبحاث والدراسات العلمية والميدانية نحوها 0 إذ كيف لنا أن نعمل على تغيير القيم بما يواتي الإنتاج والإبداع والجودة والإنجاز والتنمية دون أن ننطلق من الواقع، من خلال تحديد القيم السائدة التي تعيق ذلك كله؟ وأعتقد أن الاستدلال على القيم السائدة يمكن أن يكون من خلال عدة مؤشرات، ومن ذلك مثلاً البحث عما يفخر به أفراد مجتمع معين: هل يفخرون مثلاً بالإنتاج أم بالاستهلاك ؟ بالإنجاز الفعلي أم بالمظاهر؟ بالمحافظة على ما هو قائم وقديم أم بالمبدع الجديد وهل يفخر الفرد منهم بعمله أم بحسبه ونسبه ؟ بما حقق من تطوير لذاته، أم بكونه مدعوماً ومسنوداً من أشخاص أو جهات معينة ؟ هل يفخر بولائه للوطن أم بنفوذه وجاهه ؟ وأحسب كذلك أنه يمكن الاستدلال على القيم التي تسود في أي مجتمع، من خلال ما يُعْجَبُ به أفراد ذلك المجتمع وبالتالي يقلدونه، فهل يعجبون مثلاً بما لدى المجتمعات المتقدمة من ولاء لمؤسسة العمل، وصدق في التعامل، وتقدير للوقت، ووفاء بالوعد، وجودة في الإنتاج، وإبداع وابتكار، أم يعجبون بما لدى تلك المجتمعات من تقليعات، وطريقة في اللباس، ولَكْنَةٍ في اللغة، وبما لديها من موسيقى وأغانٍ ؟ وهل يعجبون بالعالِم والمخترع والباحث والمكتشف والفيلسوف والمفكر والأديب، أم يعجبون بالأوفر ثراءً، والأعظم جَاهاً أو نفوذاً أو شهرة ؟ ومن المؤشرات الأخرى التي تدل على القيم اتجاه الاهتمامات، فهل تتوجه اهتمامات المجتمع مثلاً إلى القيل والقال، وإثارة الشائعات وتناقلها، والبحث عـن أخبار أهل الفن الهابط، واستعراض الممتلكات، أم تتجه تلك الاهتمامات إلى العلم والعمل والإنجاز والثقافة والرياضة والفن الرفيع ؟ ويستدل على القيم كذلك بمعرفة ما يسعى أفراد المجتمع لتحقيقه والوصول إليه من خلال ما يدفعون من مالهم وما يبذلون من جهدهم ووقتهم، فهل يبذل أفراد المجتمع أموالهم وجهودهم وأوقاتهم لنيل السعادة لأسرهم أو تحسين جودة حياتهم وإثرائها مثلاً، أو للوصول إلى معانٍ جليلة وتحقيق مبادئ سامية، أم يبذلونها لنيل إعجاب الناس، والظهور أمامهم بمظهر الغني المقتدر، أو الكريم المعطاء، أو المتنفّذ ذي الجاه والسطوة ؟ ومما يستدل به على القيم الراسخة في المجتمع فيما أعتقد كذلك، هو ما يغضب الناس له، فهل يغضبون من المسؤول مثلاً إن هو رفض الواسطة، وأبى التعيين أو الترقية أو تقديم الخدمة بناء على صلات القرابة والمعرفة والمصلحة، أم أنهم يثنون عليه لأنه دَعْمٌ وسَنَدٌ لأقاربه وعائلته وعشيرته، وصاحب نخوة ولا يَرُدُّ ذي الحاجة حتى لو خالف القانون ؟ وهل يغضبون من قرار رسمي لأنه يمس مصالحهم الخاصة، رغـم أن فيه مصلحة الوطن كله ؟ أم يقبلون به طالما كانت فيه مصلحة جميع المواطنين ..؟ هي إذن مؤشرات متعددة ذات دلالة على القيم السائدة في المجتمع، ودراسة هذه المؤشرات والبحث فيها جدُّ مهم، بهدف تحديد القيم المعيقة للتنمية والتقدم 0 ولا تكفي بطبيعة الحال دراسة القيم السائدة، بل يجب أيضاً دراسة القيم الغائبة التي ينبغي أن تكون قائمة وموجودة لتحقيق أي تطوّر .
| |
|