البلد : نقاط : 200510 تاريخ التسجيل : 01/01/1970
| موضوع: نطلب العدل .. ونمارس الظلم! الأربعاء ديسمبر 12, 2012 4:20 pm | |
|
نَطلبُ العَدلَ .. ونُمارسِ الظُّلمَ !
ابراهيم كشت - بالرغم من اهتمام الإنسان بقيمة العدل منذ العصور القديمة ، وبالرغم مما شهده التاريخ من فورات وثورات وصراعات ومنازعات وأحداثٍ جسام طلباً لهذه القيمة ، وبالرغم مما احتلَّهُ موضوع العدل من مساحة في التراث والفكر الإنساني . بالرغم من ذلك كله ، أعتقد أن النظرة الواقعية الحقيقية الصريحة ، تجعلنا نعترف بأن الظلم جزء من طبيعة الإنسان، وكثيراً ما يكون جزءاً من نمط تفكيره وإحساسه ، وعلى رأي المتنبي فإنه : {والظلمُ مِنْ شِيَمِ النّفوسِ ... فإن تَجِدْ ذا عفّةٍ فَلِعِلَّةٍ لا يَظْلِمُ } . فالإنسان - غالباً - حريص على قيمة العدل ، يتمسك بها ويدعو إليها حين يتعلق الأمر بحقوقه ، أما إذا تعلق الأمر بالآخرين ، فإنه يبتدع عشرات الأسباب ؛ لتبرير الاعتداء على حقوقهم ، أو ظلمهم بأحكامه وآرائه ومواقفه وقراراته وسلوكاته . والحياة ذاتها ، (هي الأخرى) ليست عادلة فـي توزيعها للصفات التي تحملها الجينات، حيث أن الناس متمايزون في مدى جمالهم وأشكالهم واستعدادهم للمرض ، ومتفاوتون في ملكاتهم النفسية وإمكاناتهم ، وفي قدراتهم العقلية كذلك . ورغم ذلك فالأفراد جميعاً ينتمون لإنسانية واحدة من حيث أصولهم وتكوينهم ، وهم متشابهون إلى حد بعيد جداً من حيث حاجاتهم الأساسية ورغباتهم ، مما يعني ضرورة السعي إلى تحقيق نسبة عالية من العدالة بينهم في مجال الحقوق والواجبات وتكافؤ الفرص وإتاحة الحريات وتحقيق الإشباع للحاجـــات الأساسية . أما مجالات التمايز الأخرى التي تظهر حتى لو تحققت العدالة في الحقوق والواجبات وإتاحة الفرص ، كالتفاوت في القدرة على الكسب ، والترقي في الرُّتب العلمية أو الاجتماعية أو السياسية ، وفي المجالات المهنية والفنية والأدبية والفكرية، فلا يمكن تحقيق المساواة فيها ، إلا إذا تغيرت سنن الكون وقوانين الطبيعة ونواميس الحياة .
* في معنى العدل : أتحدثُ طبعاً عن العدل بمعناه الإنساني الشامل ، وليس بمعناه الحقوقي أو القانوني وحسب ، وضمن هذا السياق ، فقد ذكر بعض الفلاسفة أن العدل يعني (أن تأخذ ما لك ، وتعطي ما عليك) وقالوا إن المقصود بالعدل : (وضع الشيء في موضعه) وقال سقراط إن العدل هو : (فضيلة احترام حقوق الآخرين) . ورأى فقهاء القانون أن العدل يشير إلى (تحقيق المساواة بين المواطنين أمام القانون) . أما عندما نتحدث عن العدالة الاجتماعية ، فإن الأمر يغدو مجالاً واسعاً للخلاف بين المفكرين وأتباع الايدلوجيات المختلفة، فثمة من يرى أنها (تكافؤ الفرص بين جميع المواطنين في مجتمع معين) ، بينما يرى آخرون أنها تعني (أن ينال الناس ما يستحقونه على أساس حاجاتهم وجهودهم) ، ويذهب سواهم – بطبيعة الحال - إلى غير ذلك .
هل العدل هو المساواة ؟ أعتقد أن العدل يختلف عن المساواة بمفهومها المطلق ، لكن المساواة في بعض أشكالها جزء من العدل ، وفي بعض أشكالها الأخرى ليست من العدل في شيء . فليس عدلاً مثلاً أن يتقدم طلبة أحد الصفوف لامتحان، بما بينهم من اختلاف في درجة الذكاء ، واختلاف في حجم الجهود التي بذلها كل منهم في الدراسة والمذاكرة ، ثم يأتي المدرس ليجمع علاماتهم ويقسمها على عددهم ، ويستخرج المعدل ، ثم يعتبر المتوسط الحسابي الناتج علامـة لكل طالب منهم من باب المساواة بينهم ..! ولكن العدل هو أن تتاح لجميع هؤلاء الطلبة ذات الفرص ، بحيث تكون لدى كلٍّ منهم المادة الدراسية ذاتها ، ومعلومة حول موعد الامتحان ، وذات الوقت للإعداد له ، وذات المدة لإجراء الامتحان ، ونفس الأسئلة ، وذات التصحيح النزيه ، وحينئذٍ تكون المساواة بهذا المعنى جزءاً من العدالة وضرورة لتحقيقها .
هل ثمة تناقض بين العدل والحرية ؟ للعدل علاقة مهمة بالحرية ، فهو قيد عليها ، لكنه ليس ضدّها ، حيث يكاد يتفق جميع الفلاسفة والمفكرين على أن حرية الإنسان مشروطة دائماً بعدم الاعتداء على حقوق الغير ، أي أنها مشروطة بالعدل . وقد يبدو مثل هذا القول حول علاقة العدل بالحرية نظرياً أو مجرد حديث فلسفي ، لكن دَعْونا نتذكر مصير الأفكار والمناهج والدول التي أساءت فهم العلاقــــة بين هاتين القيمتين (أعني العدل والحرية) ، واعتقدَتْ أن تحقيق العدالة الاجتماعية يستوجب سلب حرية الناس في التملك ، وعند التطبيق ، اعتقدَتْ كذلك أن العدالة تستوجب كتم حريات الناس في التصرف والتعبير واختلاف الرأي ، وكانت النتيجة تداعـي تلك الأفكار والمناهج ، وانهيار الأنظمة التي تبنتها ، بعد أن تركت خلفها ما تركت من آثار القمع والفقر والحاجة .
وما علاقة العدل بالحقوق والقانون : للعدل - بطبيعة الحال - علاقة وثيقة بالحقوق ، فمحور العدل ومجاله يتمثل في أن يأخذ كلٌّ حقوقه ، ولا يُسلب أحد حقاً له ، أما القانون فمجرد أداة مـــن الأدوات التي يستخدمها الإنسان لتحقيق العدل إضافة لتحقيق غايات أخرى ، وكأي أداة تؤدي دوراً وتسعى لتحقيق غرض محدد ، قد تكون كفؤه أو غير كفؤه ، قادرة على أداء دورها وتحقيق غرضها أو غير قــادرة على ذلك ، وقد تستخدم استخداماً صحيحاً أو مغلوطاً ، وبالتالي فإن وجود قانون ينظّم مجالاً ما من مجالات الحياة أو يحكمها ، لا يعني بالضرورة أنه يحقق العدل ، وحتى لو كان محققاً للعدل في نصوصه ، فإن ذلك لا يعني أن تطبيقه سيكون محققاً للعدل بالضرورة ، بل إن القانون ذاته سواء في نصوصه أو في تطبيقه قد يكون وسيلة لوقوع الظلم..! وهذه النتيجة رغم بساطتها وبَدَهيّتها كثيراً ما تغيب عن الأذهان ، وبخاصة عن أذهان بعض القانونيين ، حين يعتقدون أن مجرد تطبيق القانون أو صدور الأحكام بمقتضاه يحقق العدالة بالضرورة ، مع أن العدل قيمة مطلوبة لذاتها ، أما القانون فهو مجرد وسيلة لتحقيق هذه القيمة ، قد تُصيب في تحقيقها وقد تخيب .
العدل والموضوعيّة صديقان ...! وللعدل بمفهومـه الواسع وتجلياته المتعددة في كل نواحي الحياة ، علاقة قوية بالموضوعية ، حيث تعني الموضوعية النظر إلى الأشياء والحكم عليها وفقاً لما هي عليه في الواقع ، دون انحياز ، ودون تدخل أية عوامل كالتعصّب أو الميل النفسي أو البُغض ، أو غير ذلك من عوامل تجعل الحكم على الوقائع يحيد عن الحقيقة ، ويجافي مقتضيات العدل الذي يشترط النزاهة والتجرد . ولذلك فإنه يوصف بالظلم ومجافاة العدل من يُقيّم الناس أو يحكم على سلوكاتهم ، دون أن يراعي متطلبات الموضوعية ، التي تستوجب تحييد الاعتبارات الذاتية ، والاستناد إلى الوقائع والحقائق كما هي ، دون تشويه أو تحريف .
حين يغيب العدل ... لغياب العدل كقيمة وواقع آثار وخيمة ، فالظلم كما يقول ابن خلدون : (مؤذنٌ بزوال العمران) بمعنى أنه يقوّض الحضارة ، كما أن الظلم مبعث للكراهية والأحقاد والضغائن في المجتمع ، مما يترتب عليه تزايد الصراعات الظاهرة والخفيّة ، الكامنة والسافره ، المعبَّرِ عنها بالعدوان الصريح ، أو التي تتخذ شكل الإحجام عن الإنتاج ، وقلة الولاء ، على نحو يؤثر سلباً في التنمية والتقدم والتطور . فعلى الرغم مما قلناه فيما تقدم ، من أن الظلم طبيعة في الإنسان (من شيم النفوس) إلا أن رفض الظلم ، والغضب منه ، ومقاومته ، والثورة عليه ، ومحاربة الظالم ، جزء من طبيعة الإنسان كذلك . بل إن طلب العدل ورفض الظلم جزء حتى من طبيعة الحيوانات الاجتماعية كما يقول العلماء ، نتيجة ما توصلوا في أبحاثهم وتجاربهم العلمية المُحْكَمَة .
وبعد : لعل أهم وسائل تعلّم قيمة العدل وتعليمها وترسيخها فـــي النفوس ، ينطلق بشكله المبسط من القاعدة الذهبية الشهيرة التي تقول : (عامل الناس كما تحبُّ أن يعاملوك) فهذه القاعدة ذات الجانبين المتوازنين ، تحمل في مضمونها أهم معاني العدل ، حيث أن الفرد حريص على حقوقه حدَّ التقديس ، ولذلك يجب أن تكون نظرته الى حقوق الآخرين نظرة تقديس واحترام ، مما يعني أنه ليس لــه أن يعتدي على أي حقٍ من حقوقهم ، سواء حقهم في الحياة وسلامة الجسد والكرامة ، أو حقهم في التملك وحرية الاعتقاد وإبداء الرأي والعمل والتنقل ، أو غير ذلك . أما خير وسيلة لتعلّم وتعليم تحقيق العدل في الحكم على الآخرين ، كأفراد وجماعات ومجتمعات ، فإنما تكون بأن لا يحكم المرء ولا يقيّم أحداً إلا بأن يتصور نفسه مكانه ، فهل كان سوف يتصرف على ذات النحو إذا كان محاطاً بالظروف ذاتها ؟ كما أن العدل في تقييم الآخرين وإصدار الأحكام بحقهم (بمعناه الاجتماعي وليس القانوني) وبالتالي تحديد الموقف منهم وتحديد شكل التعامل معهم ، ينبغي ألا يكون منطلقاً من خلال نظرة جزئية لا تُلمُّ بكل المعطيات والظروف والبواعث والبيئة المحيطة ، وإلا كان التقييم والحكم والموقف والتعامل مجافياً للعدل لا محالة .
| |
|