البلد : نقاط : 200480 تاريخ التسجيل : 01/01/1970
| موضوع: ما هو الندم .. ؟ الإثنين مارس 26, 2012 9:45 am | |
|
ما هو الندم..؟
ابراهيم كشت - خطر لي أن أتوقّف للحظاتٍ ، لأتأمل في ماهيّة الشعور بالندم ، وأتفكّرَ في العناصر التي يتألف منها ، والمعاني التي ينطوي عليها ، فبدا لي أن الندمَ شعورٌ غريب فعلاً ، فهو مركَّبٌ ، متعدد الدلالات ، إذ أن مجرد إحساس المرء بوخز الضمير حيال فعل قام به (أو امتنع عنه) يتضمن عناصر متعددة ، تمتزج جميعها في لحظة واحدة لتشكل هذا الشعور ، وربما كان أول عنصر يدخل في جوهر الندم ، هو ذلك الإقرار النفسي الخفيّ من قبل النادم بأنه كان يملك حرية الاختيار ، وأنه كان أمام أكثر من بديل ، لكنه لم يختر بديلاً صائباً ، أي أن في الشعور بالندم اعترافاً مبدئياً من قبل الإنسان بأنه يحوز الإرادة ، وبأنه مخيّر وليس مُسيّر . فحين يكون أي شخص مقتنعاً بأنه لا يملك الإرادة ، وبأنه مكرهٌ تماماً على الفعل ، وليس له فيه خيار ، فإنه لن يشعر بالندم بطبيعة الحال . أما العنصر الثاني الذي يدخل في صلب الندم وتكوينه فهو الإقرار بالمسؤولية ، فالنادم لا يعترف بأنه أخطأ الاختيار وحسب ، لكنه يحسُّ أيضاً بمسؤوليته عن هذا الاختيار أو القرار الخاطئ ، وعن السلوك الذي ترتب عليه . فإذا كانت المسؤولية تعني تحمل تبعات الفعل ، فإن النادم يشعر على الأقل بأنه يستأهل ما حاق به من الحسرة والأسى نتيجة فعله الذي ندم عليه . وفي ذلك أيضاً دلالة عن أن شعور الإنسان السويّ بمسؤوليته عن أفعاله جزء من فطرته وتكوينه . والعنصر الثالث في الندم هو تمني الشخص النادم لو أن ذلك السلوك الخاطئ لم يقع ، إنه يتمنى لو يستطيع شطب هذا الفعل الذي ندم عليه من ماضيه . وهذا تمنٍ لا يمكن أن يتحقق بطبيعة الحال ؛ لتعلّقه بالماضي ، ولعل في مجرد تمني الإنسان شيئاً بشدة ، مع إدراكه لعدم إمكانية تحققه ، ألم قائم بحدّ ذاته . أما العنصر الرابع الذي ينطوي عليه الندم بطبيعته فهو عزم المرء على عدم تكرار الفعل الذي ندم عليه ، أي أن الندم بمثابة توبة مبدئية ، منطلقة من الذات التي كرهت الفعل الخاطئ ، وتألّمت بسببه ، ورغبت في أن لا يُعاد ولا يتكرر . وربما كان خامس العناصر التي يتألف منها الندم في تركيبته هذه ، هو ذلك الحزن والألم والحسرة التي تترافق معه ، والتي قد تكون مجرد وخزة عابرة حيناً ، أو إحساساً مُمِضّاً وموجعاً أحياناً ، أو فيضاً من مشاعر عارمة قاسية تملأ النفس بالكآبة العميقة في أحيان أخرى . وكثيراً ما يترافق الندم كذلك مع عنصر آخر ، وهو الرغبة بالتكفير عن الخطأ من خلال سلوك إيجابي ، كالاعتذار ، أو الاستعداد لتلقي العقوبة المترتبة على الخطأ ، أو القيام بأعمال خيّرة قد تعوض عن آثار الفعل الذي ندم الشخص عليه . هذا هو الندم إذن ، قد يبدو بسيطاً ، لكنه في حقيقته تركيبة من العناصر ، ومزيج من الإقرارات والاعترافات والمواقف النفسية والتمنيات والرغبات والنوايا والمشاعر. وأعتقد أن الندم على الخطأ بمفهومه هذا شعور طبيعي فطري مولود مع الإنسان ، وإن كان متفاوتاً بين شخص وآخر في شدته وتأثيره من جهة ، وقابلاً للتأثّر بالثقافة السائدة من جهة أخرى ، فمخالفة قواعد السلوك السائدة في المجتمع تبعث بحد ذاتها على الندم وتزيد من حجمه ، كما أن إباحة الثقافة لبعض الأفعال رغم مجافاتها للحق والخير قد يمحو أو يقلل الشعور بالندم ، أو يساعد في تقديم تبريرات للفعل الخاطئ . لقد كنتُ قرأت ذات مرة في كتاب (الكلام أو الموت) للأستاذ مصطفى صفوان ، إشارته إلى التحليلات التي تتضمن وجود قانون طبيعي يحظر القتل بالنسبة للإنسان ، ويولّد الاعتداء على هذا القانون شعوراً بالذنب والندم دائماً ، حتى وإن وقع القتل على الأعداء ، وقد كان هذا الشعور موجوداً حتى لدى المجتمعات المُغرِقة في البدائية ، بدليل طقوس التطهير التي كان يخضع لها المحاربون المنتصرون بعد عودتهم من الحرب ، فبالرغم من أن الثقافة الاجتماعية تبيح قتل العدو ، إلا أن قانون حظر القتل يظل يفعل فعله كقانون طبيعي فطري يبعث تجاوزه على الندم . ويتحدث المتخصصون عن وجود منطقة في الدماغ تقع خلف الجبهة مباشرة وتحديداً فوق مدار العين يزداد نشاطها في حالة الندم ، وعند وجود خلل في تلك المنطقة لا يحس الشخص بمشاعر الندم أبداً ... ولعل في ذلك ما يشير أيضاً إلى أن الإحساس بالندم جزء من طبيعة الإنسان ، تطوّر بتطوره ، وإن كان يتأثر بالثقافة والبيئة المحيطة التي تزيد من حساسية هذا الشعور أو تقللها . على أية حال ، صحيح أن الشعور المفرط بالندم ، واستمراره ، وتحوله إلى كآبة مستديمة ، أمر سلبي وخارج عن السَّواء ، لكن الشعور الطبيعي بالندم دليل على رسوخ الخير في فطرة الإنسان ، كما أنه سبب للامتناع عن الشرور خشية الندم بعد القيام بها ، وباعث على التوقف عن السلوك الخاطئ ، ودافع لاتخاذ القرار بعدم العودة إليه .
| |
|