موضوع: رحلة جنونية تحت الجليد القطبي الأحد مارس 18, 2012 8:50 am
رحلة جنونية تحت الجليد القطبي
حسام جميل مدانات - يبدو أن الانجازات العظيمة تبدأ دائما بأفكار جنونية وأحلام تتسامى فوق الواقع. لقد غزا الانسان الفضاء ورصد أبعد المجرات وهبط على القمر وارسل مركبات غير مأهولة للكواكب. لكن أجزاء مهمة من الأرض نفسها ما زالت تحتفظ بأسرارها ولم تستكشف مثل الصحارى وما يكمن تحت كثبان رمالها من حضارات مندثرة أو ثروات معدنية، وأعماق المحيطات التي تسودها ظلمة أزلية أبدية، وأيضا ذلك العالم البارد الخفي تحت طبقات الخليج القطبي. لعل هذا العالم الغامض هو ما أغرى الفرنسي غسلان باردو وزملاءه بتنظيم حملتهم الاستكشافية لسبر أغوار منطقة القطب الشمالي، ولمعرفة ما يكمن تحت أطواف الجليد العملاقة هناك.
رحلة تحدٍّ علمية ورياضية أطلق على هذه الرحلة اسم: في أعماق البحر تحت القطب Deep-sea Under the Pole وشارك فيها 8 أشخاص من مختلف التخصصات والمهن. استغرق التجهيز للرحلة ثلاث سنوات، تضمنت تدريبات على تدبير أمور الحياة اليومية، كالحصول على الماء من الجليد، وإقامة المخيم وفكه بأسرع وقت. وكانت مواقع التدريب في جبال الألب وفي فنلندة، وهي باردة حقا، لكنه برد لا يقارن بما سيلاقونه فوق أطواف الجليد القطبية وتحتها. وقد كُلف الفريق بمهمتين علميتين. قياس سمك أطواف الجليد في عدة مواقع لمتابعة معدل ذوبانه. إضافة الى تسجيل ساعات النوم ودرجة الحرارة لأعضاء الفريق، وبالذات للغواصين. جهز أعضاء الحملة حاجتهم من المواد الغذائية، 22 كيسا يزن كل منها 1 كغ لكلّ منهم، لسد حاجتهم خلال الجزء الأول من الرحلة التي تدوم 45 يوما. في أواسط شهر آذار استقل الفريق الطائرة باتجاه منطقة القطب الشمالي، وبعد أن اختارت الطائرة بقعة بدت مناسبة لهبوطها، وقادرة على تحمل 3.5 طن، وزن الطائرة وما تحمله، هبطت الطائرة فوق طوف جليدي. على بعد 76 كم من القطب الشمالي، ثم غادرت الموقع تاركة افراد الفريق ليتدبروا أمورهم، وبرفقتهم كلب قطبي ليحذرهم من اقتراب الدب القطبي. بدأ الفريق تحركه باتجاه كندا، والتحرك ليس سيرا وإنما تزلجا على الجليد، ويزيد من صعوبة الوضع أن على كل منهم أن يجر خلفه 140 كغ من المؤونة والمعدات، وحيث يسفعهم الهواء البارد، بدرجة سالب 30 الى سالب 50 درجة س. في اليومين الأولين أنساهم سحر الطبيعة وفرحهم بتحقيق الحلم قسوة الطقس وفرط الجهد المبذول. امتدت أمامهم الصحراء الجليدية الخالية من أي شيء سوى الجليد، باستثناء بعض الأحياء البحرية مثل الكرل، التي كانت تفاجأ بهم أثناء تحركها في الشقوق المائية بين أطواف الجليد.
الغوص تحت الطوف الجليدي قلنا أن هدف الرحلة هو استكشاف الماء تحت الأطواف الجليدية. وتضمنت مهمة الغواصين التقاط صور وأخذ قياسات متنوعة. ولعل الجزء الصعب من مهمتهم هو عندما كانوا يخرجون من الماء فتلفح وجوههم الريح الصرصر القارصة البرودة، وتجمد الماء على وجوههم فورا، فيلجأون الى الخيمة باسرع ما يستطيعون ليخلعوا ملابس الغوص وليتدفأوا: لاحظ أن درجة حرارة الماء كانت سالب 1,8 درجة. فماء البحر المالح يتجمد عند درجة دون الصفر. وبالطبع، فإن الرحلة لم تخل من المفاجأت والأحداث، مما زاد من معاناة أعضاء الفريق. ففي بعض الأحيان كانوا يضطرون لحمل معداتهم عندما يستحيل جرها بسبب وعورة سطح الجليد والانحدار الشديد. وفي إحدى الليالي هبت ريح عنيفة معاكسة لاتجاه حركتهم. وفي الصباح اكتشفوا أن الطوف الجليدي الذي كانوا فوقه قد عاد بهم الى الخلف مسافة سبعة كيلومترات. ويعترف باردو، وهو مهندس ميكانيكي، بأنه في بعض اللحظات في بداية الرحلة كان يلوم نفسه على إحضار هؤلاء الناس معه الى هذه المغامرة الخطرة. لكن مع مرور الوقت تأقلم الجميع وارتفعت المعنويات بعد ثلاثة أسابيع من بدء الرحلة، وخاصة مع تلقيهم تعزيزات تموينية بواسطة الطائرة. وكانت حصيلة الرحلة عشرين الف صورة التقطت خلال 51 مهمة غوص، في تسعة مواقع مختلفة. وقد اضطر الفريق لإنهاء مهمته قبل موعدها عندما تسببت موجة دفء استثنائية في جعل طبقة الجليد رقيقة وخطرة في بعض المواقع على طريقهم المحددة مسبقا، فالتقطتهم طائرة في أواخر نيسان، قبل أن يحققوا هدفهم في بلوغ الأراضي الكندية. عن: Ca M’interesse