البلد : نقاط : 200510 تاريخ التسجيل : 01/01/1970
| موضوع: العذاب ليس له طبقة الإثنين أكتوبر 25, 2010 2:07 pm | |
|
الذي يسكن في أعماق الصحراء يشكو مر الشكوى
لأنه لا يجد الماء الصالح للشرب.
و ساكن الزمالك الذي يجد الماء و النور و السخان و التكييف
و التليفون و التليفيزيون لو استمعت إليه لوجدته يشكو مر الشكوى
هو الآخر من سوء الهضم و السكر و الضغط
و المليونير ساكن باريس الذي يجد كل ما يحلم به،
يشكو الكآبة و الخوف من الأماكن المغلقة و الوسواس و الأرق و القلق.
و الذي أعطاه الله الصحة و المال و الزوجة الجميلة
يشك في زوجته الجميلة و لا يعرف طعم الراحة.
و الرجل الناجح المشهور النجم الذي حالفه الحظ في كل شيء
و انتصر في كل معركة لم يستطع أن ينتصر على ضعفه
و خضوعه للمخدر فأدمن الكوكايين و انتهى إلى الدمار.
و الملك الذي يملك الأقدار و المصائر و الرقاب تراه عبدا لشهوته
خادما لأطماعه ذليلا لنزواته.
و بطل المصارعة أصابه تضخم في القلب نتيجة تضخم في العضلات.
كلنا نخرج من الدنيا بحظوظ متقاربة
برغم ما يبدو في الظاهر من بعد الفوارق.
و برغم غنى الأغنياء و فقر الفقراء فمحصولهم النهائي من السعادة
و الشقاء الدنيوي متقارب.
فالله يأخذ بقدر ما يعطي و يعوض بقدر ما يحرم و ييسر بقدر ما يعسر..
و لو دخل كل منا قلب الآخر لأشفق عليه و لرأى عدل الموازين الباطنية
برغم اختلال الموازين الظاهرية..
و لما شعر بحسد و لا بحقد و لا بزهو و لا بغرور.
إنما هذه القصور و الجواهر و الحلي و اللآلئ مجرد ديكور خارجي
من ورق اللعب.. و في داخل القلوب التي ترقد فيها تسكن الحسرات
و الآهات الملتاعة.
و الحاسدون و الحاقدون و المغترون و الفرحون
مخدوعون في الظواهر غافلون عن الحقائق.
و لو أدرك السارق هذا الإدراك لما سرق
و لو أدركه القاتل لما قتل و لو عرفه الكذاب لما كذب.
و لو علمناه حق العلم لطلبنا الدنيا بعزة الأنفس
و لسعينا في العيش بالضمير و لتعاشرنا بالفضيلة
فلا غالب في الدنيا و لا مغلوب في الحقيقة
و الحظوظ كما قلنا متقاربة في باطن الأمر و محصولنا من الشقاء
و السعادة متقارب برغم الفوارق الظاهرة بين الطبقات.
فالعذاب ليس له طبقة و إنما هو قاسم مشترك بين الكل.
يتجرع منه كل واحد كأسا وافية ثم في النهاية تتساوى الكؤوس
برغم اختلاف المناظر و تباين الدرجات و الهيئات
و ليس اختلاف نفوسنا هو اختلاف سعادة و شقاء و إنما اختلاف مواقف.
فهناك نفس تعلو على شقائها و تتجاوزه و ترى فيه الحكمة
و العبرة و تلك نفوس مستنيرة ترى العدل و الجمال في كل شيء
و تحب الخالق في كل أفعاله.. و هناك نفوس تمضغ شقاءها
و تجتره و تحوله إلى حقد أسود و حسد أكال..
و تلك هي النفوس المظلمة الكافرة بخالقها المتمردة على أفعاله.
و كل نفس تمهد بموقفها لمصيرها النهائي في العالم الآخر.
حيث يكون الشقاء الحقيقي.. أو السعادة الحقيقية..
فأهل الرضا إلى النعيم و أهل الحقد إلى الجحيم.
أما الدنيا فليس فيها نعيم و لا جحيم إلا بحكم الظاهر فقط
بينما في الحقيقة
تتساوى الكؤوس التي يتجرعها الكل.. و الكل في تعب.
إنما الدنيا امتحان لإبراز المواقف.. فما اختلفت النفوس إلا بمواقفها
و ما تفاضلت إلا بمواقفها.
و ليس بالشقاء و النعيم اختلفت و لا بالحظوظ المتفاوتة تفاضلت
و لا بما يبدو على الوجوه من ضحك و بكاء تنوعت.
فذلك هو المسرح الظاهر الخادع.
و تلك هي لبسة الديكور و الثياب التنكرية التي يرتديها الأبطال
حيث يبدو أحدنا ملكا و الآخر صعلوكا
و حيث يتفاوت أمامنا المتخم و المحروم.
أما وراء الكواليس.
أما على مسرح القلوب.
أما في كوامن الأسرار و على مسرح الحق و الحقيقة..
فلا يوجد ظالم و لا مظلوم و لا متخم و لا محروم..
و إنما عدل مطلق و استحقاق نزيه يجري على سنن ثابتة
لا تتخلف حيث يمد الله يد السلوى الخفية يحنو بها على المحروم
و ينير بها ضمائر العميان و يلاطف أهل المسكنة و يؤنس الأيتام
و المتوحدين في الخلوات و يعوض الصابرين حلاوة في قلوبهم..
ثم يميل بيد القبض و الخفض فيطمس على بصائر المترفين
و يوهن قلوب المتخمين و يؤرق عيون الظالمين و يرهل أبدان المسرفين.
و تلك هي الرياح الخفية المنذرة التي تهب من الجحيم
و النسمات المبشرة التي تأتي من الجنة.
و المقدمات التي تسبق اليوم الموعود.
يوم تنكشف الأستار و تهتك الحجب و تفترق المصائر إلى شقاء حق
و إلى نعيم حق.. يوم لا تنفع معذرة.. و لا تجدي تذكرة.
و أهل الحكمة في راحة لأنهم أدركوا هذا بعقولهم
و أهل الله في راحة لأنهم أسلموا إلى الله في ثقة
و قبلوا ما يجريه عليهم و رأوا في أفعاله عدلا مطلقا دون أن يتعبوا
عقولهم فأراحو عقولهم أيضا،
فجمعوا لأنفسهم بين الراحتين راحة القلب و راحة العقل
فأثمرت الراحتان راحة ثالثة هي راحة البدن..
بينما شقى أصحاب العقول بمجادلاتهم.
أما أهل الغفلة و هم الأغلبية الغالبة فمازالوا يقتل بعضهم بعضا
من أجل اللقمة و المرأة و الدرهم و فدان الأرض،
ثم لا يجمعون شيئا إلا مزيدا من الهموم و أحمالا من الخطايا
و ظمأً لا يرتوي و جوعا لا يشبع.
فانظر من أي طائفة من هؤلاء أنت..
و اغلق عليك بابك و ابك على خطيئتك.
من روائع
دكتور مصطفى محمود
رحمه الله وأسكنه فسيح جناته وغفر له
| |
|