موضوع: حذيفة بن اليمان .. رجل الدولة والمصلحة العامة الخميس أغسطس 26, 2010 10:25 pm
حذيفة بن اليمان .. رجل الدولة والمصلحة العامة
ينتمي حذيفة بن اليمان للعرب العدنانية وعلى ذلك فإنه نشأ في يثرب حيث تؤول المدينة لسلطة القبائل اليمنية الأصل، فاكتسب والده حسيل بن جابر لقبه باليمان لحلفه مع الأوس والخزرج الذي لجأ إليه هربا من الثأر في أهله، أسلم مع بداية الدعوة في يثرب وقبل أن يرى الرسول، فهو متحرر من ذلك الصراع الذي اجترحته قريش على السلطة فخلطت النبوة بالملك، كما أنه قريب من الفكر الديني المتقدم في يثرب موطن اليهود في ذلك الوقت، ورغم أنه لم يكن من السابقين للإسلام كما أنه لم يكن من سادة يثرب الذين قادوا أسلمة المدينة إلا أنه استطاع أن يضع نفسه في مكانة متقدمة بين الصحابة، فهو أمين سر النبي، في معنى متقدم لهذا الدور لم يعهده العرب في مفهوم القيادة العائلية، ولعل الإسلام استطاع أن يرسي مفهوما جديدا للقيادة وبالتالي أدوارا مختلفة لم تكن معتادة في الحياة العربية. إن مفتاح العلاقة المتميزة بين حذيفة والنبي الكريم بدأ من الثقة الكبيرة التي استطاع أن يؤسسها حذيفة بنزاهته التي لم تكن موضعا لشك أو اختبار وقدرته على التعامل مع الظروف الصعبة، وحسن تقديره للمواقف والمصالح العامة ولو على حساب مصالحه الشخصية، نزاهته كانت مبدئية ولم تكن مرتبطة أبدا بأي معطيات أولية أو اعتبارات ذرائعية، فيستأذن الرسول يوم بدر بعدم المشاركة في المعركة ليحافظ على كلمته التي قطعها بألا يقاتلهم ليخلوا سبيله في عودته للمدينة بعد أن ادعى أنه ليس متصلا بالنبي أو دعوته وليس عدوا لهم، فيعفيه الرسول من النكوث بعهده، ويخضع البراء للامتحان الكبير يوم أحد حيث يلقى والده الشهادة بسيوف المسلمين في لحظات الفزع التي أصابت الصفوف، وفي حالة الوجوم التي أصابت معسكر المسلمين المكلوم أصلا في صدمة المعركة يحتسب والده عند الله ويدعو بالمغفرة لمن أخطأوا في أمره قبل أن يستأنف القتال للحظات الأخيرة. في غزوة الخندق يكون المرشح الأكثر أهمية للقيام بمهمة صعبة تتمثل في الانسلال إلى معسكر القبائل المحاصرة للمدينة، الظلام الكثيف والظروف الجوية هي الغطاء الوحيد الذي يمكن استثماره، فوجهه ليس معروفا تماما للقبائل القادمة ولكنه ليس نكرة كذلك، إلا أنه يتمكن بحسن تعامله مع المواقف الصعبة وسيطرته على أعصابه من التعامل مع قريش والعودة بقرار انسحابها للنبي الكريم، الأكثر من ذلك الالتزام الحرفي بالمهمة دون اجتهاد شخصي، إنه حسن التدبير وليس تجاوز الدور، كان في وسعه أن يغتال أبو سفيان بن حرب ليوجه ضربة قاسية لقريش وحلفائها، ولكن المصلحة العامة طغت على تصوره الشخصي، ليعود إلى النبي برصيد هائل من الثقة. في تلك المرحلة استفشت ظاهرة المنافقين في المدينة ممن ضربت مبادئ الإسلام مصالحهم المادية ومواقعهم القبلية، لم يكونوا في وضعية المواجهة الصريحة لأن الإسلام تحول إلى قوة مؤثرة، إلا أنهم تحينوا الفرصة في حالة حدوث الانتكاسة أمام تتابع الهجمات من عرب الجزيرة، لم يكن لدى الرسول الرغبة في فضح المنافقين لأن ذلك سيؤدي إلى شرخ في المجتمع الإسلامي الناشئ، ثم أنه لم يتوجه إلى مسألة النبش في الضمائر، فقصارى ما في وسع العدالة البشرية أن تتعامل مع الظاهر والمعلن أما السرائر والضمائر فهي بين العبد وربه، إلا أن الأمور كان يتوجب أن ترتكن على شخصية موثوقة تماما تستطيع أن تمتلك أعصابها وألا تبدي أي انفعال يمكن أن يفضح المنافقين على أمل أن يتوب بعضهم، على أن تمتلك هذه الشخصية القدرة على المواجهة في الأوقات الصعبة لتضع الأمور في نصابها، لم تكن هذه المواصفات تنطبق على شخص أكثر من حذيفة، فثقة الرسول في حسن تدبيره وتصرفه جعلته أمين السر الذي تناط به مهمة بالغة الحساسية والخطورة. كان عمر بن الخطاب في خلافته ينتظر حذيفة عند كل حالة وفاة في المدينة، فإن حضر فذلك يعني أن المتوفى لم يكن من المنافقين، وإن لم يحضر يتعذر الخليفة عن الصلاة، وعلى ذلك كان لوجود حذيفة أهمية قصوى في المدينة بصفته الأمين على سر رسول الله الكريم، ولكن رغبته الشخصية في المشاركة في الفتوحات جعلته يلتحق بالجيش في جبهة الفرس، فالإسلام وقت خلافة عمر لم يعد مهددا في أرضه، وبالتالي فهو في حل من البقاء لأداء هذه المهمة، ويتوجب عليه أن يؤدي دوره في مكان آخر، اختاره عمر واليا على المدائن التي كانت حاضرة مدن العراق، ولكن حرصه على مصالح المسلمين القادمين من بيئة مختلفة بعيدة عن الطبيعة الجغرافية للعراق جعله يؤسس مدينة الكوفة القريبة من المناخ الصحراوي الملائم للمهاجرين من الجزيرة العربية. أنجز الكثير في تأسيس الدولة الإسلامية وكانت مسؤوليته الشخصية تجعله دائم التحري عن الحقيقة، مقيما على محاسبة نفسه أولا بأول، للحظة الأخيرة في حياته يقف أمام ذلك الحساب الذاتي الصارم ويبكي مخافة أن يكون في خانة السخط وليس الرضا، على أنه دائما ما توخى في حياته أن يفعل ما يرضي الله وما يمليه عليه إيمانه وضميره، في كل المحن التي واجهت الإسلام في آخر حياته بقي مقيما على ما يراه في مصلحة المسلمين وتقديمه على أية اعتبارات أخرى ولو حملت ما حملت من ظاهر الحق أو باطنه.