البلد : نقاط : 200490 تاريخ التسجيل : 01/01/1970
| موضوع: هدر المواهب الخميس مارس 11, 2010 4:44 pm | |
|
هَـــدْرُ المواهـــب - إبراهيم كشت
في جوهر كل موهبة تكمُنُ ثروة معنوية، وطاقة حَبيْسة، وقابليات واستعدادات وإمكانات متحفزة للإنبات والاخضرار والإثمار، فإذا تُرجِمتْ هذه الموهبة إلى واقع يسعى على مسرح الحياة، والى سلوك فعلي محسوس، عادت بالخير والنفع على صاحبها، وانعكست بايجابياتها على المجتمع في غالب الأحوال، وربما حققت الفائدة للإنسانية جمعاء. فنحن إن أمعنّا النظر فيما لدى البشرية من فكر وعلم وأدب وفن، وما لديها من إنجازات قائمة، وتطوّر تكنولوجي، وجدنا أنها في معظمها قد انطلقت يوماً عن (موهبةٍ) ما . فالموهبة (مورِدٌ) حقيقي لا غنى عنه لإثراء الحياة وتطويرها، وهي تتسم بما تتسم به الموارد عادة من ندرة ومحدودية، على أني أفهمُ كلمة (مورد) بأنها تعني الشيء المادي أو المعنوي الذي يجب أن يكون متوافراً لدينا لتحقيق إنجازٍ محدد مقصود، وبدونه لا يمكن تحقيق ذلك الإنجاز . وانطلاقاً مما تقدم فإن هدر المواهب، وتبديدها، وإضاعتها سدى، يعد خسارة فعلية، وخطيئة حقيقية يقترفها المرء بحق نفسه، أو يجنيها الآباء على أبنائهم، أو تأتيها المدارس حيال تلاميذها، أو يقوم بها المجتمع نحو أبنائه . سواء أكان مثل هذا الهدر ناجماً عن عدم اكتشاف الموهبة ابتداءً، أو عن إهمالها بعد اكتشافها، أو طمسها نتيجة الجهل وقلة الاهتمام، أو عدم إتاحة الظروف المواتية لنموها، أو الإحجام عن القيام بما ينبغي لتنميتها، أو عدم تحفيزها لتتبلور وتتحقق وتترجم إلى فعل، أو ناتجاً عن سوء إدارتها، أو عن توجيهها نحو منافع شخصية قريبة لصالح آخرين، أو وَأدِها في مهدها نتيجة عوامل القمع أو قيود الثقافات والعادات . وإذا كانت الموهبة فطرية في أصلها، فإنها في ماهيتها وجوهرها عبارة عن (إمكانٍ) كامن، لا يتحول إلى (قيمة) إلاّ حين يتحقق في الواقع. وتحققه بشكله الأفضل والأمثل، يحتاج قبل كل شيء إلى المعرفة بوجوده، وتحديد ملامحه، ثم الإيمان به، ثم تدريبه وتمرينه وصقله وتنميته، ضمن ظروف لا تحدُّ من انطلاقه . وترجمة الموهبة إلى واقع وسلوك هي التي تُشعِر الفرد الموهوب بقيمة ذاته، وتمنحه الإحساس بالرضا عن النفس، ولا سيّما أنه يستغل من خلالها نقاط قوته على نحو يشعره بالإنجاز، ويحقق له وجوده ودوره . ولعل من أقسى المشاعر التي يمكن أن يعيشها الفرد، إحساسه بأنه يملك موهبة هُدِرت، أو لم يُتَح لها النمو كما ينبغي، أو أنها لم تُقدّر، أو ضاعت لاعتبارات تتعلق بغياب العدالة أو بالجهل أو عدم توافر الفرص، أو سوى ذلك . وكثيراً ما تكون للموهوبين، أطفالاً أو راشدين، طبيعة نفسية خاصة تجدر مراعاتها، فالموهوبون أكثر حساسية عادة، وذهنهم المتوقد يتيح لهم تحليلاً أعمق للوجود وعلاقاته وأفكاره وأشيائه، لذلك فهم أكثر رفضاً للأفكار المبسَّطة الشائعة التي يفسر بها غيرهم من الأفراد الحياة ووقائعها، ويتقبلون على أساسها كثيراً من الأشياء والأحداث، فيرتاحون ويطمئنون . كما أن الموهوبين غالباً أكثر انشغالاً بالتأمل والتفكير، وأوفر إحساساً بالحياة ومُجرَياتها، وأشد تمرّداً على مألوف الثقافات والعادات، ناهيك عن أنهم يسعون إلى الكمال في أعمالهم وإنجازاتهم، ويملكون الدافعية العالية والاهتمامات المتعددة . وكل ذلك قد يجعلهم في أحيان كثيرة قريبين من المشاكل والأزمات النفسية، وتزداد مشاكلهم هذه إذا ضاعت مواهبهم، مما يتطلب فهم طبائعهم، ورعايتهم، والاهتمام بهم، وتقدير تميّزهم، لكي لا تُهدر مواهبهم، بكل ما يترتب على هدرها من خسارة . وبعد، فإن الموهبة قدرة طبيعية خاصة يمتلكها الفرد، تؤهله للتميز في مهارة أو إنجاز، وتدل عليها الميول والاهتمامات وسرعة التعلم في مجال ما والإتقان فيه، وقد تكون الموهبة خارقة في حالات نادرة فتخرج إلى الواقع بغض النظر عن الظروف المحيطة بها، لكنها في غالب الأحوال تحتاج إلى إنماءٍ وتشجيع وصقل وتدريب . والاهتمام بالموهوبين نمط من الثقافة، يقوم على أساس النظر إلى الموهبة على أنها (قيمة) و(مورد نادر)، ليس على مستوى المال والأعمال والمشاريع وحسب، بل وعلى مستوى العلم والفن والثقافة والفكر كذلك .
منقول
| |
|