موضوع: مختارات من أشعار آنا أخماتوفا الأربعاء مارس 03, 2010 12:15 pm
مختارات من أشعار آنا أخماتوفا
*** من يدي يأكل الحمام ***
كم من الأحجار رُميت عليّ! كثيرة حدّ أنّي ما عدتُ أخافها كثيرة حدّ أنّ حفرتي أصبحت برجا متينا، شاهقا بين أبراج شاهقة. أشكر الرماة البنّائين - عساهم يُجنَّـبون الهموم والأحزان - فمن هنا سوف أرى شروق الشمس قبل سواي ومن هنا سوف يزداد شعاع الشمس الأخير ألقاً. ومن نوافذ غرفتي غالبا ما سوف تتغلغل النسمات الشمالية ومن يدي سوف يأكل الحمام حبوب القمح. أما صفحتي غير المنتهية فيد الإلهام السمراء ذات الهدوء والرقّة الإلهيين هي التي سوف من هنا من علٍ تنهيها. سوف تأتي في كل الأحوال يا أيها الموت - فلِمَ ليس الآن؟ إنني انتظرك وقد نفد صبري. من أجلكَ أطفأتُ الأضواء وفتحتُ الباب يا بسيطا كأعجوبة. فتعال من فضلك تعال بأي قناعٍ ترغب: انفجر فيّ كمثل قنبلة غازية أو تسلّل واسرقني على غرار رجل عصابة، سمّمني بدخانك التيفوسيّ أو كن الأسطورة التي حلمنا بها أطفالا - والمألوفة حد الاشمئزاز من الجميع - الأسطورة التي ألمح فيها طرف معطف أزرق باهت ووجه خادمٍ شاحب من فرط الخوف. لم يعد ثمة ما يهمّني بعد الآن فنهر الينيسي يجري ونجمة الشمال تلمع والرعب الأخير يُـبهِت البريق الأزرق للعينين المعشوقتين. سوف أشرب نخبا أخيرا لمنزلنا المدمَّر لحياتنا التعيسة لوحدةٍ عشناها اثنين وسأشرب نخبكَ أيضا: نخب خداع شفتيك اللتين خانتا، نخب جليد عينيك الميت، نخب هذا العالم الوحش . الحنان الحقيقي لا يشبه شيئا: صامتٌ هو. بلا جدوى إذا تغطي كتفيّ وصدري بمعطف الفرو. وبلا جدوى كلماتك المهموسة عن روعة الحب الأول: كم بتّ أعرفها جيدا نظراتك هذه العنيدة والجشعة! لا أعلم هل أنتَ حي أو ميت هل على هذه الأرض أستطيع البحث عنك أم يمكنني فقط عندما يخبو المغيب أن أندبكَ بصفاء في أفكاري؟ كلّ شيء لك: صلاة النهار حرّ الليل الأرِق والأبيضُ من سرب أشعاري والأزرقُ من نار عينيّ. لم يُعشَق أحد أكثر منك، لم يعذّبني أحد أكثر منك، ولا حتى ذاك الذي خانني حتى كدتُ احتضر ولا حتى ذاك الذي غمرني ورحل. لقد علّمتُ نفسي أن أعيش ببساطةٍ وحكمة أنظر الى السماء وأصلّي للرب أتنزّه طويلا قبل نزول المساء كي أُنهك همومي الباطلة. وعندما الأشواك تصنع حفيفها في الوهد وعندما تتدلّى عناقيد السّمَّـن الحمراء أكتب أبياتا فرحة عن انحطاط الحياة، عن انحطاطها وجمالها. ثم أعود من نزهتي. الهرّة الكثيفة الزغب تلحس راحة يدي، تخرخر بنعومة والنار تتوهج فجأة على برج المنشرة الصغير عند البحيرة. وحدها صرخة لقلاق يحطّ على السقف تكسر الصمت من حين الى حين: لقد علّمتُ نفسي أن أعيش ببساطةٍ وحكمة: حتى إذا قرعتم بابي لن أسمعكم ربما
آنا أخماتوفا
تلاقت تجربة آنا أخماتوفا الشعرية مع المزاج الشيوعي في نسخته السوفيتية، حصلت على شهرة كبيرة نتيجة لذلك، لكنها لم تكن بوقا للنظام الشيوعي، وعلى العكس من ذلك لم تكن المرحلة الستالينية سوى كابوس عايشته على المستوى الشخصي والنفسي كأي امرأة سوفييتية، أو كأي امرأة سوفيتية سيئة الحظ لتحري الدقة، فهي خسرت زوجها في واحدة من المحاكمات السريعة بعد الثورة، وأقصيت تماما عن الحياة الثقافية في موسكو وغيرها من المدن السوفيتية في مرحلة ستالين، ومع الحرب العالمية الثانية والحصار الكبير الذي واجهته مدينة لينينغراد والمعارك الكبيرة في ستالينغراد انطلقت مرة أخرى للشعر، لم تنصب نفسها كمنظرة في مهنة سوفيتية شبه مفتوحة، وإنما انطلقت لتصبح الصوت السوفيتي المقاوم الذي يرفض الاستسلام أو المساومة، هي باختصار امرأة مؤمنة بوطنها وبأحلامها ولا ترى في نفسها القدرة على العيش في مكان آخر في العالم، المسألة تتعلق بمبادئ عميقة، كان يمكن أن تتحول إلى أسطورة في العالم الغربي المفتوح لتصيد المثقفين السوفييت ولو كانوا من أنصاف الموهوبين أو دون ذلك، ولكنها فضلت أن تكون حتى النهاية، وكما كانت الزوجة المخلصة، مواطنة مخلصة لوطنها وتاريخه وأحلامه. فضلت منذ البداية أن تكون امرأة واقعية، رفضت الرمزية وكل المدارس التي حولت الأدب إلى مختبرات تجريبية للذات وأفكارها، قصيدتها هي لحم الحياة المر وشوك الوردة، وليست أي فكرة مثالية أخرى بعيدة، مع ذلك لم تكن قصيدتها مجرد شعارات ولم تتورط في قبح الكيتش السوفييتي الذي ترعرع تحت ذرائعية الواقعية، فالمسألة كانت أبسط من ذلك بكثير من فتاة بدأت تكتب الشعر في مرحلة مبكرة من حياتها، وحملت معها أثناء جولاتها في الإتحاد السوفييتي الشاسع في مساحته وتنوعه شخصية تلقائية ومنفتحة ورثتها من التأمل على ضفاف البحر الأسود في مرابع طفولتها الأوكرانية منذ أن تفتحت عيونها على الدنيا سنة 1889. تحملت العديد من التبعات في فترة الحكم الشيوعي، فبعد أن انتهى دورها في الحرب تحولت إلى شخصية غير مرغوب فيها بالنسبة لنظام ستالين، وأقدمت على سقطتها الكبرى – تلك التي غفرها الروس والأوكرانيون – بتملق ستالين للإفراج عن ابنها المعتقل منذ سنوات في سيبيريا، وبرحيل ستالين عادت الروح من جديد إلى أخماتوفا إلى مقدمة الحياة الثقافية في الاتحاد السوفييتي وقدمت أفضل ما لديها في السنوات الأخيرة، تلك القصائد المكتومة التي اختمرت في زمن القمع والصمت، وبقيت نموذجا لامرأة مثقفة وشاعرة كبيرة حتى وفاتها سنة 1966, وبعد أن تلقت لسنوات وابلا من النقاد الموالين للنظام ورؤيته تحولت لسنوات أخرى إلى الشاعرة الأولى في التجربة السوفيتية، فشعرها كان يغري باختلاق التناقضات ويقدم من داخله الحلول الصوفية لاستيعابها في الوقت نفسه.