فالقرآن هدى للمتقين ففيه إرشاد لهم، واهتداء لما فيه صلاحهم وفلاحهم في العاجل والآجل.. وخصَّهم سبحانه بالهداية، وإنْ كان القرآن هدى للخلق أجمعين؛ تشريفًا لهم، وإجلالاً لهم، وكرامة لهم، وبيانًا لفضلهم؛ لأنهم آمنوا به، وصدّقوا بما فيه.. لأنهم صاموا ابتغاء وجهه الكريم، واجتنبوا المحرمات فكانت التقوى شعاراً وهداية لهم في رمضان وفي غير رمضان..
يقول سيد قطب رحمه الله: "وهكذا تبرز الغاية الكبيرة من الصوم.. إنها التقوى.. فالتقوى هي التي تستيقظ في القلوب وهي تؤدي هذه الفريضة، طاعة لله، وإيثاراً لرضاه. والتقوى هي التي تحرس هذه القلوب من إفساد الصوم بالمعصية، ولو تلك التي تهجس في البال، والمخاطبون بهذا القرآن يعلمون مقام التقوى عند الله، ووزنها في ميزانه، فهي غاية تتطلع إليها أرواحهم، وهذا الصوم أداة من أدواتها، وطريق موصل إليها، ومن ثم يرفعها السياق أمام عيونهم هدفاً وضيئاً يتجهون إليه عن طريق الصيام.. (لعلكم تتقون)".
سأل أميرُ المؤمنين عمرُ رضي الله عنه الصحابيَ الجليل أُبيَ بن كعب رضي الله عنه عن معنى التقوى ومفهومها؟ فقال يا أمير المؤمنين: أما سلكت طريقا ذا شوك؟ قال: بلى.. قال: فما صنعت؟ قال: شمّرتُ واجتهدت.. أي اجتهدتُ في توقّي الشوك والابتعاد عنه، قال أُبي: فذلك التقوى.
لِذا كتب عمر بن الخطاب إلى ابنه عبد الله: (أما بعد... فإني أوصيك بتقوى الله عز وجل الذي لا بد لك من لقائه، ولا منهى لك دونه، وهو يملك الدنيا والآخرة).
تلكم هي.. التقوى.. حساسيةٌ في الضمير، وشفافيةٌ في الشعور، صدقٌ في الروح وخشيةٌ مستمرة، وحذرٌ دائم، وتَوَقٍّ لأشواكِ طريقِ الحياة الذي تتجاذبُه أشواكُ الرغائب والشهوات، وأشواكُ المخاوفِ والهواجس، وأشواكُ الفتنِ والموبقات، وأشواكُ الرجاءِ الكاذب فيمن لا يملكُ إجابةَ الرجاء، وأشواكُ الخوف الكاذب ممن لا يملكُ نفعاً ولا ضراً..
قال ابنُ حبان في روضة العقلاء: أولُ شُعبِ العقل لزوم تقوى الله، فإن مَنْ أصلَحَ جُـوّانِيّه أصلَحَ اللهُ بَرّانيَّـه، ومن فَسَـدَ جُوّانيّه أفسـد اللهُ بَرّانيّـه.
وقال أبو محمد الأندلسي في نونيته:
إن التّـقيَّ لـربِّـه مُتنـزِّهٌ *** عن صوتِ أوتارٍ وسمـعِ أغانِ وتلاوةُ القرآن من أهل التُّقى*** سيما بحُسن شجا وحُسنِ بيان أشهى وأوفى للنفوس حلاوةً *** مِن صوت مزمارٍ ونقـرِ مَثَانِ
إخوتي.. إنها سفينة النجاة يوم القيامة.. إنها التزام طاعة الله وطاعة رسوله،.. إنها علم وعمل، والتزام بأداء ما فرض الله واجتناب ما حرّم الله سبحانه وتعالى فهذا هو طريق الفلاح والنجاح،
فمن أراد أن يكون من أصحاب الجنة الذين قال الله فيهم: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ}.
فعليه بما قال سفيان الثوري: "لا يصيب الرجل حقيقة التقوى حتى يحيل بينه وبين الحرام حاجزاً من الحلال، وحتى يدع الإثم وما تشابه منه، فالمتقي يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس".
وبما قاله أيضاً عبد الله بن عمر: "لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع ما حلك في الصدر".