موضوع: الشيخ الطاهر بن عاشور الجمعة سبتمبر 04, 2009 10:13 am
الشيخ الطاهر بن عاشور
سامح محاريق - مثل الشيخ الطاهر بن عاشور رقما صعبا في الحياة في تونس خاصة في مواجهة الظروف التي سادت بعد الاستقلال والميل للتغريب وإشاعة الفكر العلماني على عواهنه بحيث ينصرف إلى الجوانب الشكلية دون أن ينعكس على الواقع السياسي والحريات وحتى إشاعة التفكير الواقعي والعلمي، مجرد تقليد للواقع الغربي على سبيل محاولة التحديث التي لم تتمكن من تحقيق شيء على الأرض الواقع سوى القشرة التي لا تصنع نهضة حقيقية. ولد الشيخ محمد الطاهر في تونس سنة 1879 لأسرة جاءت من الأندلس هربا بدينها من محاكم التفتيش وعاشت في تونس وبقيت أسرته قريبة من الأجواء الدينية، وهذا ما أهله لدخول جامع الزيتونة ليدرس علوم القرآن، وكذلك أتقن اللغة الفرنسية بما مكنه من الإطلاع على الثقافة والفكر الفرنسي، والتحق الشيخ للعمل كمدرس في المدارس الدينية منذ بداية القرن العشرين، وتميز أيضا بقوة اتصاله مع الشرق العربي وتطورات الأحداث فيه، وخاصة من خلال علاقته مع رشيد رضا، ركز بن عاشور على تطوير التعليم، كما كانت له آراء مهمة في تجديد مؤسسة الفقه الإسلامي وأدواته، واتضح ذلك من خلال كتابه الشهير مقاصد الشريعة. تولى مشيخة جامع الزيتونة سنة 1932 وعمل على تطوير وسائل التعليم فيه، وكان أول رئيس لجامعة الزيتونة بعد استقلال تونس سنة 1956، ووقف في وجه سياسات الرئيس التونسي السابق الحبيب بو رقيبة الذي اصطدم معه عندما رفض دعوته لإباحة إفطار رمضان في تونس بدعوى زيادة الإنتاجية مما استفز الشيخ وجعله يتخذ موقفا متشددا تجاه سياسات بو رقيبة. توفي الشيخ سنة 1972 بعد أن خلف تركة كبيرة من القضايا التي نذر لها حياته يجب أن ينظر فيها المسلمون وخاصة التيارات التنويرية من جديد. سامح المحاريق
من كتاب مقاصد الشريعة للإمام الطاهر بن عاشور. لم تزل أمنية كل مصلح قيضه الله للبشر لأن يهدي الناس إلى تكوين ما يسمى في عرف الحكماء بالمدينة الفاضلة، وهم إن اختلفت عندهم الأسماء لاختلاف أساليب التعبير في اللغات لا نجد بينهم اختلافا في أن مسمى الذي يدعون إليه هو مسمى ما عناه الحكماء المدينة الفاضلة: مجتمع من الناس هو على أكمل حال يكون عليها المجتمع البشري في الرأي والعمل؛ ذلك أن الإنسان مدني بالطبع كما هو مشهور على الألسنة، وقد علل كثير من الحكماء كون الإنسان مدنيا بالطبع. وأنا أختصره وأزيد بيانا: فمعنى كونه مدنيا بالطبع أنه بطبع خلقته مجعول لأن يكون مدنيا، لأنه خلق بحيث لا يستقل وحده بأمر نفسه، بل هو محتاج إلى مشاركة غيره من بني جنسه؛ لظهور كثرة حاجاته الناشئة عن ضعفه الجبلي وتفكيره؛ فالضعف الجبلي جعله محتاجا إلى مكملات يصير بها قويا على مصادمة الكوارث والمهالك، والتفكير جعله متطلعا إلى أن يعيش كما يحب لا كما يلقى، وذلك بالمقام في حيث يريد دون انزواء أمام الحوادث المغتالة، وبتحصيل ما لا يستطيع نواله مع فرط رغبته؛ فزاد بالتفكير ضعفه جلاء لأنه يطمح به إلى تمنيات وفروض لا يستطيع تحصيلها لعجزه، على حد قول أبي الطيب: وإذا كانت النفوس كبارا * تعبت في مرادها الأجسام فاحتاج أفراد البشر إلى معونة بعضهم بعضا؛ لتصل لهم من تفكيرهم وسعيهم قوة التعاضد والتوازر، فيبذل كلما يستطيع بذله من كده أو من كسبه، عسى أن يحصل من مجموع سعيهم تحصيل معظم أماني الجميع، وبذلك التفكير والتعاضد امتاز البشر عن أصناف الحيوان. لولا العقول لكان أدنى ضيغم * أدنى إلى شرف من الإنسان وقد صار الإنسان بموجب هذا الاحتياج إلى التعاون والتكاتف مضطرا إلى اقتراب بعض أفراده من بعض، وإلى التكثر من هؤلاء المقتربين والمجتمعين، وإقامة بعضهم حيال بعض؛ ليجد كل عن احتياجه من يسارع إلى سد خلته؛ فاضطر إلى التجمع والإقامة، وهو المعبر عنه بالتمدن؛ المأخوذ من لفظ المدينة، الذي هو مشتق من فعل ممات في اللغة العربية وهو فعل مدن. ثم إن هذا الخلق الجبلي من شأنه أن يتدرج بهم في سلم الارتقاء، ولا يزال يغريهم نوال شيء بالتطلع إلى ما فوقه. ثم إن هذا التمدن يفضي بالناس في غالب الأحوال إلى توارد الرغبات على شيء يكون الموجود منه لا يفي بإرضاء الجميع، أو إلى اختلافهم في وسائل السعي إلى ما يدفع عنهم ضررا، أو يجلب إليهم نفعا، فكانوا في اجتماعهم ذلك مظنة حدوث الخلاف بينهم، وكان ذلك الخلاف من شأنه أن يهيج ما فيهم من قوة الغضب، ويحمل بعضهم على مقارعة بعض؛ فيصير بعضهم سبب إتلاف مصالح بعض، وإفساد ما أصلحوه في تجمعهم بعد أن كان تجمعهم سبب تحصيل تلك المصالح؛ فيؤول اجتماعهم في الإهلاك والضلال على أن يكون عائدا على مقصدهم الأول بالإبطال؛ فلذلك لم يزل الساعون إلى إصلاحهم من الأنبياء والحكماء يدعونهم إلى الاستقامة، وينبهونهم على أن مراد الله منهم أن يكون مجتمعهم كاملا، ومدينتهم فاضلة؛ ليكون لهم من تقويم أحوالهم ما يلائم أحسن تقويم خلقوا عليه، الدال على أن الله - تعالى - حين خلقهم على أحسن تقويم قد أراد أن يكونوا متصفين بكل وصف قويم. وإنما يتضح كمال هذا التمدن إذا كان مظهر هؤلاء المتحدين كاملا، ولا يكمل مظهرهم إلا بكمال أفرادهم، فإذا كملت أفرادهم كمل المجتمع المتركب منهم؛ لأن المركب من الصالح صالح. فليس المراد بالمدينة الفاضلة ما لولاه لهلك النوع؛ إذ قد ينتظم حال النوع انتظاما ما - أي في الجملة - بمجرد صلاح قليل؛ فيسلم من الهلاك، ويعيش عيشا بسيطا، ولكنه لا يكون على حالة ملائمة لحال التقويم الجبلي الذي خلق عليه. أودع خالق النوع - سبحانه - في جبلة أفراده عقلا يهديهم إلى إيجاد وسائل قليلة لحفظ النوع كما قدمنا، ولكنه لما علم أن ذلك غير كاف في العروج بهم إلى معارج الكمال التي أعدوا لها، ولا في الخروج عن مآزق قد يلقون أنفسهم فيها - قيض الله دعاة يدعونهم إلى الهدى، ويحذرونهم مواقع الردى، وهم العارفون؛ فمنهم أنبياء تولى الحق إرشادهم إلى ما فيه صلاح قومهم، ومنهم حكماء خصهم الله بعقول تفوق عقول عامة أقوامهم، وخص الفريقين بجلائل الصفات النافعة في إيصال الإصلاح إلى البشر غير مشوب ولا مؤرب؛ فتظافر الفريقان وعملا على الأخذ بيد البشر في مزالق الضلال، ومهاوي السقوط، وانتشاله من مخالب الهلاك، وجعل بمقدار تخلقهم بأخلاق الكمال وجريهم على طريق الهدى مقدار عروجهم في المعالي في عالم الخلود الذي لا فناء يعتريه، ولا حقائق تقلب فيه. وجماع هذا الصلاح هو صلاح الاعتقاد، وصلاح العمل، وقد جمع ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث مسلم عن أبي عمرة الثقفي، قال: قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك، قال قل آمنت بالله ثم استقم . ابتدأ أول دعاة الصلاح، وهو أول رسول أرسل إلى البشر، نوح - عليه السلام - دعوته بتطهير العقيدة، ووجوب التوبة من الشرك، ولم يزدهم على ذلك، فعلمنا أن الله ابتدأ البشر بالترقي به إلى أولى درجات الصلاح. وكذلك جاء إبراهيم قومه بالدعوة إلى التوحيد وإعلانه، وإلى مكارم الأخلاق، ورحل في بلاد الله يبث دعوته الصالحة بين البشر. ثم جاءت الرسل تترى، ما منهم إلا يأمر بالإصلاح العام، فقد قال هود لقومه (وإذا بطشتم بطشتم جبارين (130) فاتقوا الله وأطيعون (131) الشعراء. وقال صالح لثمود إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت هود: 88. وقال شعيب لأهل مدين ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ) الأعراف: 56. وقرون بين ذلك كثير منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك) غافر: 78. وهؤلاء كلهم قد اقتصرت دعوتهم على تأسيس جماعة فاضلة، ثم اتسعت الدعوة في شريعة موسى اتساعا يؤذن باقتراب استعداد البشر إلى تلقي التهذيب الكامل؛ فأخذ في تخطيط ما يصلح لأن يكون تأسيس مدينة فاضلة، ولكنه توفي ولم يقض إلا إصلاح الجماعة، إلا أنها كانت جماعة كبيرة، ثم كانت بعده أشكال كثيرة في سياسة بني إسرائيل؛ فكانت أمة فيها فضلاء كثيرون، وفيها دون ذلك. وجاء دعاة كثيرون مختلطون: أنبياء وحكماء، مثل أنبياء بني إسرائيل حتى عيسى، ومثل لقمان، وذي القرنين وتبع، وهرمس الأكبر الحكيم المصري الذي قيل: إنه النبي إدريس، وبياس الحكيم اليوناني، وسولون المشرع اليوناني، ثم سقراط، وأفلاطون. قال الحكيم الجليل يحيى السهروردي في حكمة الإشراق، وقطب الدين الشيرازي في شرحه بعد أن ذكر أساتذة أرسطاليس: ومن جملتهم جماعة من أهل السفارة - أي أهل الكتب السماوية وإصلاح الناس - مثل هرمس - أي إدريس - واسقليبوس - خادم هرمس، وهو أبو الأطباء وغيرهم - وإنما سمي الثلاثة لأنهم من عظماء الأنبياء الجامعين بين الفضيلة النبوية، والحكمة الفلسفية اه. وهؤلاء الحكماء قد دعوا، وسعوا إلى إيجاد المدينة الفاضلة، وكان أكثرهم تنويها بها هو أفلاطون. فقد رام سولون الحكيم إيجاد المدينة الفاضلة بما شرع لأهل أثينا من قوانين العدل، ونظام الشورى؛ وقال بيتاقوس الحكيم: إذا أراد الملك ضبط المملكة وجب أن يكون هو وخاصته وجنوده مطيعين للقانون مثل سائر الرعية . ورام أفلاطون إيجاد المدينة الفاضلة بضبط قواعد تكوينها. وفيهم من كان انصرافه إلى إيجاد المدينة الفاضلة أكثر من انصرافه إلى إعداد أمة فاضلة لها، مثل سولون، ومن كان انصرافهم إلى إصلاح النفوس لإعداد أمة فاضلة للمدينة الفاضلة، مثل سقراط وأفلاطون. كانت شكايات من الرسل والحكماء من سوء تلقي أقوامهم لنصيحتهم أوضح دليل على أن المدينة الفاضلة لم تلتئم، فما من الرسل السالفين إلا قائل إن قومي كذبون ) الشعراء: 117، أو قائل لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين) الأعراف: 79، أو قائل فافتح بيني وبينهم فتحا ونجني ومن معي من المؤمنين الشعراء: 118، أو قائل فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين ) المائدة: 25. وربما فارق كثير منهم أوطانهم، إذ أبوا أن يروا فيها الفساد، فقد قال إبراهيم (إني ذاهب إلى ربي سيهدين) الصافات: 99، وقال لوط (إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم) العنكبوت: 26، وخرج الحكيم سولون من أثينا بعد أن أقام لها الشرائع والعدل، والحكومة الشورية، فأفسد أهلها ذلك، وولوا عليهم الملك (بيزاستراتث) وأخذ (يوجينوس) الحكيم مصباحا في يده في الصباح، وجعل يجول به في شوارع أثينا كأنه يفتش على شيء، فإذا سئل: على ماذا تفتش؟ قال: لعلي أظفر برجل. بقيت المدينة الفاضلة مرتسمة في خيال الحكماء، فلم يزالوا يدعون، ويبتغون تأسيسها، ولكنهم لم يحصلوا على طلبتهم المنشودة؛ ذلك أن المدينة الفاضلة يلزم أن يكون رئيسها حكيما صالحا عارفا، وأن يكون أصحابه أهل الحل والعقد فيها حكماء مثل رئيسهم، وأن يكون سكانها أفاضل قابلين لسياسة الحكيم مطيعين له، غير مفسدين لما يصلحه. وقد كادت مدينة أثينا في زمن سولون أن تكون المدينة الفاضلة، وقد كان سولون يقول: المملكة البالغة غاية الكمال هي التي لا يقبل أهلها الذل والظلم، وينتصرون للمظلوم كما ينتصرون لأنفسهم . إلا أنها لم تحصل على عامة مطيعين لرؤسائهم إلا في فترات قليلة من الزمن؛ فإن سولون مؤسس شرائع أثينا، ومنظم حكومتها الجمهورية لم يلبث أن فارق أثينا، وسكن في بلاد مصر، وأبى الرجوع إلى بلده مع شدة رغبة الملك (بيزاستراتث) في رجوعه، والانتفاع بحكمته، ودارت بينهما في ذلك مراسلة لها شأنها في التاريخ. وكذلك أوشكت أن تكون مقدونية مدينة فاضلة في زمن ملك اسكندر ابن فيليبوس، ووزارة أرسطاليس له، غير أن ذلك لم يخلص لهما، ولم يلبث أن غضب ارسطاليس على الاسكندر، وفارقه فراقا لا لقاء بعده. وقد اعترف أفلاطون بعده بقرون بأن ليس في نظام الجمهورية في أثينا في زمانه ما يجعلها ملائمة للحكمة والفضيلة التامة.