موضوع: محمد علي باشا .. الحضور والغياب الثلاثاء سبتمبر 01, 2009 1:44 pm
محمد علي باشا.. الحضور والغياب
سامح محاريق - يرى الفيلسوف الألماني كارل ماركس أن صراع الطبقات هو المحرك للتاريخ، ولكنه لا ينكر أبدا دور الرجال الكبار في صناعة التاريخ، بالتأكيد كان يضع أثناء قراءته لتاريخ البشرية رجالا من طراز جانكيز خان ونابليون بونابرت ومحمد علي، في المقابل كان الفيلسوف الأنجليزي هربرت سبنسر يعول كثيرا على دور الرجال الكبار الذين يغيرون مسار التاريخ بناء على الأدوار البطولية التي يضطلعون بها، وفي الحالتين تتأكد الأهمية التاريخية لشخصية مثل محمد علي باشا، مؤسس الأسرة العلوية وباني مصر الحديثة، هو مثال نموذجي لدراسة نظرية الرجال الكبار وتطبيقها في تحليل التاريخ، فهو الشاب الألباني الذي قدم إلى مصر وهي تجيش بالصراعات والمؤامرات بعد أن أسقطت الحملة الفرنسية الأقنعة عن وجوه الحكم في مصر، خرج في طليعة واحدة من الكتائب العثمانية لمحاولة ضبط الأوضاع وتمكن خلال سنوات معدودة من التحول إلى الرجل الأول في مصر، وينفض عنها غبار قرون من التخلف ليضعها في قاطرة التاريخ، ليصبح واحدا من أهم رجال العالم في مطلع القرن التاسع عشر وربما أهمهم على الإطلاق، ولكن قصته تبدأ قبل ذلك بكثير، من مدينة يونانية صغيرة شهدت مولده وصباه وشبابه وكانت شهادة على تميزه النوعي على بقية أقرانه، بداية من أشقائه الذين كانوا يتوفون أطفالا دون يتمكن عودهم الطري من الصمود بهم في مواجهة الحياة والظروف المعيشية، ولكنه استطاع أن يستمر وأن يواصل وأن يبني مجدا كبيرا يتجاوز فيه أيا ممن أنجبتهم بلاده ألبانيا، ويتوفى على عرش كبرى ممالك الشرق في الثالث عشر من رمضان سنة 1265 ه. ولد محمد علي في مدينة قولة الساحلية بشمال اليونان سنة 1769 لأب يعمل في وظيفة بسلك الشرطة، حيث قائدا للحرس في شوارع المدينة، ولكن فرحة الأب إبراهيم أغا لم تكتمل بالطفل الذي تمكن من العيش بين سبعة عشر ابنا أنجبهم، فغيبه الموت أثناء طفولة محمد علي ليكفله عمه طوسون الذي لم يعمر كثيرا هو الآخر، فذهبت رعايته إلى إسماعيل الشوربجي الذي كان حاكما للمدينة، وكان موقعه في بيت الشوربجي يرشحه للالتحاق بسلك الجندية، وهو ما حدث فعلا لتصبح العسكرية مهنته طيلة سنوات كثيرة، وفي تلك الأثناء تعرف على السيدة أمينة هانم الواسعة الثراء والنفوذ وتزوجها لتصبح أم أبنائه ابراهيم وطوسون وإسماعيل، الذين أطلق عليهم أسماء أبيه وعمه والرجل الذي كفله، وكانت حياته تمضي في طموحات الترقي في سلك الجندية وربما كانت أقصاها أن يتحول إلى قائد إلى واحدة من فرق الجيش العثماني وتتم مكافأته بحكم واحدة من المدن في شمال اليونان أو البلقان، ولكن الحدث الرئيسي في تلك المرحلة أجرى تحولا مهما في حياته، فالأسطول الفرنسي تحت قيادة نابليون بونابرت استطاع أن يدخل شرق المتوسط وأن يتمركز في واحدة من المناطق الاستراتيجية من الإمبراطورية العثمانية، كانت الحملة الفرنسية على مصر سنة 1798 نقطة التحول التي كشفت العديد من الحقائق من أهمها: فأولا: لم تعد الدولة العثمانية تلك الإمبراطورية المهيبة التي تخشى من مواجهتها أوروبا، وأن المطامع الأوروبية لم تصبح تحاول أن تعبر إلى فنائها الخلفي فقط، ولكن يمكن أن تتجرأ للدخول في مجالها الحيوي. ثانيا: وصل الحكم المملوكي التابع للدولة العثمانية إلى مرحلة متقدمة من الضعف والهزال، فاقتصر دوره على الجباية على طريقة المقاولة لصالح الخزينة التركية. وأحدثت الحملة حالة نهائية من الفصام بين الحكم المملوكي والمصريين الذين شعروا بتواطؤ حكامهم وجانب كبير من نخبتهم مع الفرنسيين، وبالتالي سقطت كل أقنعة الشرعية التي حاول الحكم في مصر أن يسوقها طيلة قرون. لم يكن المصريون مهيئين بعد لأن يحدثوا تحولا جذريا، فالتحركات التي عمت الشوارع والانتفاضات الشعبية لم تكن أكثر من هبات عفوية، وفي تلك الأثناء كان دخول محمد علي نائبا لكتيبة عثمانية صغيرة من بضعة مئات من الجنود يمثل نقطة تحول، فاللقاء بين الزعيم الشعبي والوجه الأبرز في الثورة على الفرنسيين عمر مكرم نقيب الأشراف من آل البيت في مصر والقائد العسكري الطموح محمد علي مثل التقاء على أرضية الحل الجذري، فبعد خروج قوات الحملة الفرنسية أصبحت قوات خورشيد باشا في العراء وأصبحت تتصرف بوحشية مع المصريين وشاعت أعمال السلب والنهب، مما دعى المصريين بقيادة عمر مكرم وعلماء الأزهر إلى الثورة لخلع خورشيد باشا، وكان محمد علي هو البديل الذي يعول عليه المصريون في ذلك الوقت، وفي 13 آيار 1805 بايع المصريون محمد علي حاكما لمصر. لم يكن الأتراك مرتاحين لسياسة محمد علي في مصر والشعبية التي حظي بها، والأهم عزمه على تأسيس جيش مصري حديث مثل مشكلة مزمنة عند محمد علي، فصدر الفرمان السلطاني بنقله بصفته أحد رجال السلطان العثماني إلى سالونيك في اليونان، ولكن الحملة الإنجليزية التي انطلقت لغزو مصر سنة 1807 أنقذته من صدام مبكر مع الدولة العثمانية، وتمكن محمد علي بالتفاف المصريين حوله وعلى رأسهم عمر مكرم أن يصد هذه الحملة، ويبقى في موقعه ويستأنف مشروعه وكان مدركا أن دولته مثقلة بمئات المماليك الذين يشكلون طبقة أرستقراطية طفيلية في البلاد، عدا مؤامراتهم المتواصلة لعزله أو اقصائه من السلطة، وقرر أن يطيح بكل هذه الطبقة بضربة واحدة خاصة في ظل حاجته للموارد التي يتحكمون بها، ومشكلة الموارد كانت نقطة جوهرية لدى محمد علي وسببا في خسارته لأهم حلفائه الشيخ عمر مكرم بعد أن وقف في وجهه للتخفيف من الضرائب المفروضة على الناس، فاضطر محمد علي لعزله من نقابة الأشراف ونفيه، ولذلك وفي وسط وضع غير مستقر يغذيه المماليك بثرواتهم ونفوذهم وعلاقاتهم مع طبقة المشايخ قام محمد علي بمذبحة القلعة سنة 1811، حيث دعا زعامات المماليك لزيارته في القلعة وبعد حفل فاخر أغلقت الأبواب وقام جنود محمد علي بإطلاق النار على المماليك مما أدى إلى سقوط المئات منهم. استقطب محمد علي القادة والجنرالات الفرنسيين بعد سقوط نابليون في معركة واترلو سنة 1815 ، كما بدأ في إرسال البعثات الدراسية إلى فرنسا، ، وأنشأ مدرسة عسكرية في أسوان لتكون بعيدة عن ترصد الدول الغربية والسلطة العثمانية، وبدأت أنظار محمد علي تتوجه إلى السودان فتمكن من اخضاعها، كذلك تمكن من هزيمة الوهابيين في الحجاز ونجد، ووضع جيشه في خدمة السلطان العثماني لإخماد الثورة في اليونان في العشرينيات من القرن التاسع عشر، ولكن ذلك التدخل كلفه غاليا، فخسر جانبا كبيرا من أسطوله الناشئ، ولم يحصل على المكافأة المناسبة والتي رآها في الشام، ولكنه لم يحصل سوى على جزيرة كريت، هذه النقطة أثارت ضغينة محمد علي فقرر أن ينتزع الشام عنوة من العثمانيين، وبعد تمكنه من إسقاط رجلهم القوي أحمد باشا الجزار في عكا وتمكن من تحقيق انتصار مبرم على العثمانيين في الشام سنة 1833، وتوجهت طموحاته إلى الإستانة اسطنبول عاصمة الخلافة العثمانية، واقترب من تحقيق ذلك الحلم سنة 1839، ولكن الأعداء التقليديين للدولة العثمانية متمثلين بريطانيا وروسيا وفرنسا قرروا الوقوف بجانبها في وجه محمد علي، تناست هذه الدول مصالحها المتضاربة ووقفت بجانب السلطان العثماني في مواجهة الجيش المصري، فالوضع كان على شفير الهاوية بالنسبة للأتراك بعد أن تمكن إبراهيم باشا قائد جيش علي من إلحاق هزيمة منكرة بجيش السلطان محمود الثاني في جنوب تركيا. كانت المفاجأة أمام محمد علي هي تدخل الأسطول البريطاني (كان يعتقد حتى وقتها أن الفرنسيين يمكن أن يكونوا حلفاءه) أمام سواحل مصر وسورية، وكانت مقررات مؤتمر لندن سنة 1840الذي عقد بين بريطانيا والإمبراطورية النمساوية المجرية وبروسيا وروسيا تجبره على القبول بدولة له ولنسله في مصر والسودان بعيدا والانسحاب من الشام وإخلائها للعثمانيين، اضطر محمد علي للقبول بمقررات مؤتمر لندن بعد أن كبدت الأساطيل الأوروبية أسطوله خسائر فادحة في المتوسط، ولم يعد أمامه سوى الدفاع عن موقعه في مصر، وكانت مؤتمر لندن بمثابة المؤامرة الاستعمارية الكاملة حيث طلب من الخليفة العثماني رفض أي محاولة صلح أو تسوية مع محمد علي، ولم تتوقف نصوص المعاهدة على حل مشكلة الصراع في سوريا فقط، ولكن الحصول على ضمانات من شأنها أن تمنع محمد علي من استعادة قوته، فأصرت على اعتبار مصر برغم الحكم الوراثي لأسرة محمد علي ولاية عثمانية تسري عليها القوانين التي تصدر من الأستانة، وعلى أن تدفع مصر مبالغ طائلة لتركيا كل سنة، وكذلك حددت الاتفاقية عدد الجيش المصري بحيث لا يتجاوز 18 ألف جندي، ومنع من بناء السفن الحربية دون الحصول على موافقة مسبقة من السلطان العثماني. تعرض محمد علي لمؤامرة عالمية ألفت بين قلوب أعداء تاريخيين، وكان ذلك نتيجة شخصية محمد علي التي حملت طموحات غير محدودة ورؤى متنوعة ومتقدمة للتحديث الاجتماعي، فهو يفتح الباب لخريجي فرنسا ومن ضمنهم رفاعة الطهطاوي وغيره لبناء الصروح التعليمية وتعديل المناهج الدراسية، وبناء مدارس الترجمة والمطابع، ويقوض من سلطة المشايخ التقليديين، ويستقبل الإشتراكيين الأوروبيين متمثلين في السان سيمونيين ليحاولوا صنع اليوتوبيا الخاصة بهم على أرض مصر، وكذلك يطور الزراعة وبجانبها يهتم بالصناعة فتتحول مصر إلى مركز عالمي لصناعة السفن الحربية والمدافع، وعمل على تعريب الثقافة المصرية ونقلها من التركية إلى اللغة العربية، كان رجلا اصلاحيا أكثر مما كان قائدا عسكريا، ولذلك كان خطره في مصر الثرية بمواردها الطبيعية وعلى مدخل افريقيا وثرواتها الطبيعية يمثل خطرا محدقا بالسيطرة الأوروبية. تقليم قوة محمد علي استمر لسنوات بعد ذلك، فمعاهدة بالطة ليمان أجبرته على تقديم تنازلات اقتصادية كبيرة للأتراك، والخروج عن نهجه الاقتصادي الصارم الذي مثل واحدة من نقاط الضعف في علاقته مع المصريين، مع أن محمد علي كان يهدف لإعادة توظيف الثروة المصرية في خدمة أهداف بعيدة المدى، وكان العمل على تجريد محمد علي سببا لتسريع نهايته وإصابته بمرض الخرف في السنوات الأخيرة من حياته الأمر الذي دفعه للتنازل على العرش في سنة 1848 لإبراهيم باشا، ليتوفى بعدها بأقل من عام في معزله بمدينة الإسكندرية وينقل إلى القاهرة ليدفن بالجامع الذي حمل اسمه في منطقة القلعة.