موضوع: مختارات من شعر ممدوح عدوان السبت يونيو 13, 2009 9:20 am
مختارات من شعر ممدوح عدوان
صباح العامرية
... ولقد آنستُ موتاً في الأهازيج فأقبلت إلى أفراحك الحمر لكي أقبس موتي ولقد آنست صمتاً في الشرايين فأقبلت إلى ضوضاء قتلاك لكي أعرف صوتي ثم آنست شباباً طافحاً في فقلت: الآن إني لائق بالموت ناديت: اجعلي لي آية وسط حياتي أنا لا أؤمن بالبعث اسكبي لي فزعاً يكفي لهذا الصبح إني قد تقاسمت مع الخوف رغيفا فتآخينا على عمر وأغفينا على جمرٍ وإني طالب موتي ابتسمنا وجدنا نعرف سر النَهَرِ المخبوء في ثوبي تخاوفنا وقلنا: فليظنوه غراماً يستحق القتل لكن بغتة أقبل حزن خائف يقطع أوتاري ومن ذا يحمل النار التي خبأتها من سيداريها كضوء العين آهٍ يا ابنة العم يسيل الموت حتى طنب الخيمة لا وقت لغير الموت كان الموت موفوراً (بيوت العز لا تخلو وهذا بعض ما عند الأجاويد) اسكبي لي ثم قربت فمي حتى تضرجت حياءْ وأنا أختلس النظرة نحو الأسلحه وأرى حراس عز البيت فوق الأسطحه ثم حدثتك همساً إنني جئت لكي أشعل هذا البيت نارا ثم آنست حريقاً بين عينيك فأقبلت فراشاً يستسيغ النار غانقت احتراقي وتلقتني يداك انسرب الحزن من العين إلى العين كما ينسرب الموت الذي نسرقه واستغرقتني دمعة التقبيل راح الموت ينسل رخياً بين أيدينا وأغوتني احتمالات غد يأمن هذا الجوع أغواني شراب مسكر فيك وُعُود ولموتي آية أعرفها فالسكر لا يكفي ولو أحضر عينيك تهاويم إلى القلب ولو أحضر ذكراك جفافاً في العروقْ وجنوني لم يعد يكفي أحب الموت والموت عسير لا يدانيه جنوني كل ما جئت لكي أشهده فيك وما جئت لكي أعشقه عندك مات غربتي تملأني آنست موتاً في احتفال العرس آنست مع الناس جنونا قدّمي لي لحظة قاتلة بين جنونين جنوناً جامحاً ما بين قتلين امنحيني غفلة وسط نهار مبصر كنتُ شعاعاً جارحاً ما بين أحضانك والبحر وأمتدُّ نوافير من الضوء وأبقى العاشق الموبوء في الفجر الذي يقتل والفجر الذي يفضح هذا القتل ضوء وأنا أعرفك الآن كما أعرف موتي آه يا أمي وقبري إنني آنست في حضرتك الموت وأمعنت، تعرفت على وجه صديقي فتهاويت لكي أقبس حضناً دافئاً والنوم كالموت.. ولكن إن موتي غير هذا الكسل الصعب وإن النائمين الآن صاروا جيفاً والميتين ازدهروا ألجأ للأم التي كانت منافيّ وليس النوم موتاً إنني جئت لكي أقبس موتي ولكي أشعل هذا البيت نارا قدمت لي غابة الأهل طريقين إلى النوم الطويل وأنا جئت لكي أقبس يا قاتلتي الموت الجميل إنه آخر ما صاح به المغدور إذ يهوي على الباب قتيل.
وداع دون رحيل
يغيبون عنك لكنني في ظلام شقائك أبقى يقول المحاذر فيهم كلاماً قليلا يقوم المغادر منهم وداعاً طويلا يموتون أو يرحلون يقول المسافر: حيث الأمان اشتياق وحيث السموم دواء نلاقي عن الانتحار البطيء بديلا وان لديّ الكلام القليلا وان لديّ الوداع الطويلا لديّ المخاوف والتوق للأمن والإرتياح ولكنني أصبر الآن صبر جميلا سأبقى وتبقى وكل على نده صار عبئاً ثقيلا يغيبون عنك يلقون أمتعة سرقوها ويلقون ذرية أنجبوها ويمضون عنك خفاقاً وأرزح وحدي لأني أحمل حملاً ثقيلا وأحمل جسماً هزيلا يخافون .. يمضون من يتحمل هذا الجنون؟ ابتسامتك الموت غضبتك الموت سيفك في السرعة الصوت لكنني إذ أخاف.. يقيدني للبقاء عنادي يفرون عنك كما تتجنّب أرض الوباء الرواحلُ ماذا ستفعل بي؟ ولماذا أظل معك؟ ولم يبق ما سوف أخسر ما عاد لي أي عمر أجازف من أجله بالفرار ولم تبق أرض أجازف من أجلها بالبذار ولم يبق صوت لأملأ هذا الظلام عويلا ولكنني سوف أبقى لعلّ الذي بيننا السحر والحرب إنا بدأنا الطريق عدوين وأنت تراخيت في حلم أن تراني قتيلا أو ترانيَ بعد العناد أطأطئ كي أتبعك وأنا حامل من طموح المجاني رؤيا بأني سأشهد لو حلماً مصرعك
ممدوح عدوان
إذا كانت عبارة المثقف الشامل يمكن أن تكون حقيقية فإن الشاعر السوري ممدوح عدوان سيكون أحد الممثلين لها، فهو الشاعر والكاتب والصحفي والمسرحي والمترجم والمفكر، أحد الأسماء التي نشطت في الثقافة العربية في العقود الثلاثة الأخيرة واستطاعت أن تدفع بمشروعها ليصبح قاسما مشتركا بين زملائه ونقاده وقرائه، آخر شعراء اليقين القومي كما أطلق عليه الشاعر المصري أحمد عنتر مصطفى، وفي وصف عميق لحالة ممدوح عدوان يوجز الشاعر لقمان ديركي ''لم يكن ممدوح عدوان شاعراً وحسب، إنما استطاع بتعددية شخصيته الفنية والإبداعية أن يتحول إلى ظاهرة ثقافية كبرى.'' لذلك أتى غيابه سنة 2004 ليمثل خسارة كبيرة للثقافة العربية. ولد الشاعر في بلدة مصياف السورية سنة 1941 لعائلة ريفية فقيرة، ويذكر أن عدوان هو اسم جده الذي سمي تيمنا بالحكاية الشعبية للشاعر نمر العدوان، وفي مصياف تلقى تعليمه حتى المرحلة الإعدادية لينتقل بعدها إلى حماة وحمص لمتابعة دراسته وبعد ذلك توجه إلى دمشق ليحصل على شهادته الجامعية في الأدب الإنجليزي، وتبدأ هناك تجربته الشعرية التي فجرتها تماما نكسة 1967 ليكون ديوانه الشعري الأول ''الظل الأخضر'' هو المزامن لمرحلة النكسة والصدمة التي خلفتها في الثقافة العربية وفي قلب أحد أبناء الفكر القومي العربي، وواصل عدوان كتاباته للمسرح وللدراما التلفزيونية مستلهما حياة الفقراء والمهمشين من أبناء الريف والبادية ممن يحاولون البحث عن مكان في العالم. قدم عدوان الكثير من الأعمال وفي الترجمة وبالإضافة إلى ترجمته لكازينتاكس وهرمان هسه قدم الترجمة العربية الأكثر حيوية للملحمة الشعرية اليونانية القديمة الإلياذة مع شروحاته العديدة ودراساته عن زمن كتابتها على يد سيد الدراما اليونانية هوميروس وكذلك قدم لجانب من ملحمته الأخرى الأوديسا، وترجم عن الإنجليزية الملحمة الهندية الكبيرة المهابهاراتا وأعمالا متنوعة للروائي البرازيلي جورج أمادو. من أشهر الدواوين الشعرية التي تركها ممدوح عدوان '' لا دروب إلى روما'' و '' تلويحة الأيدي المتعبة'' و''عليك تتكئ الحياة'' و''كتابة الموت'' الذي كان ديوانه الأخير سنة 2000 قبل أن يدخل في صراع مع مرض السرطان انتهى بوفاته بعد ذلك بأربع سنوات، وقدم عدوان في المسرح ''هملت يستيقظ متأخراً'' و '' الميراث'' و'' محاكمة الرجل الذي لم يحارب'' وله تجربة روائية واحدة حملت اسم ''أعدائي''. تميز شعر عدوان بالجرأة في طرحه وفي ذلك النفس العربي الذي يحمل في نبرته الفروسية ومركزة الذات في مواجهة العالم على النمط الجاهلي، ولموسيقى عدوان الشعرية نكهة خاصة ومميزة تمكن من المحافظة عليها مع تطوره في مختلف المراحل ومحاولاته للتجديد في نصه.