موضوع: ماهي الحكمة ؟ الثلاثاء يونيو 09, 2009 12:16 pm
مـا هـــي الحكمــة ؟
إبراهيم كشت - ليس من السهل أبداً أن تضع تعريفاً جامعاً مانعاً يُعبّر بدقة عن معنى لفظ (الحكمة)، ذلك أن الحكمة مفهوم له تاريخ طويل، والمفاهيم التي تمتد جذورها في عمق الزمن، يضيف الناس إليها عبر الأجيال ويحذفون منها ما يواتي ثقافاتهم وأفكارهم، على نحو يجعل حصر ذلك المفهوم في تعريف محدد أمراً عسيراً . ولعل مما يشير إلى قدم تاريخ مصطلح (الحكمة) مثلاً ارتباط اسم حكيم الصين (كنفوشيوس) بها ،علماً بأن كنفوشيوس ظهر قبل الميلاد بنحو خمسمائة عام . وقد ساد استخدام مصطلح (الحكمة) أيضاً في عهد الفلاسفة اليونان قبل الميلاد، حتى أن كلمة الفلسفة في أصلها اللاتيني تشير إلى معنى (محبة الحكمة)، كما ورد لفظ (الحكمة) في الانجيل المقدس الذي اعتبر استخراج الحكمة أهمّ من استخراج اللآلئ، وتكررت كلمة (الحكمة) في القرآن الكريم عدة مرات وارتبطت بالخير، وبالكتاب (أي بالعلم والمعرفة)، كما ارتبطت بالميزة التي تؤتى للشخص كما أوتيت للقمان الحكيم مثلاً . في اللغة يقال إن الحكمة تعني (صواب الأمر وسداده)، وتطلق الحكمة كذلك على (الكلام الذي يَقلُّ لفظه ويَجِلُّ معناه) كما في بعض أشعار زهير والمتنبي مثلاً، أو في مقولات بعض المفكرين والأدباء . وتذهب المراجع الفلسفية مذاهب شتى في تحديدها لدلالة لفظ الحكمة، ومن ذلك مثلاً قولها إن الحكمة هي (الحُكْمُ القويم المتزن) وقولها إنها (سمة الإنسان المجرب) وقولها كذلك إنها (معرفة تأملية وفطرية) وقولها إنها (الرأي السديد الذي يُسْلِكُ صاحبه المسلك الصائب) وقول الفيلسوف كانت في الحكمة إنها (القدرة على اختيار الطريقة التي تنتهي بنا إلى السعادة) . ولو أني حاولتُ أن أصوغ مفهوماً للحكمة لقلتُ إنها منهج حياة (والمنهج كما هو معلوم طريق قويمة عملية توصل إلى الغاية، وتقوم على قواعد وأصول سليمة) وهذا المنهج يتألف مـن جانبين أساسيين أحدهمـا نظـري والآخر عملي، فالجانب النظري مـن الحكمة ـ كمنهج حياة ـ هو أفكار وقناعات تتسم عادة بالعقلانية والنضج والواقعية وبعد النظر وتفهم قوانين الحياة نتيجة الخبرة والتأمل والاستفادة من تجارب الذات والآخر، أما الجانب العملي مـن منهج الحكمة هذا فهو سلوك ينطلق عن تلك القناعات ويتميّز بالاتزان، والمرونة، وسعة الصدر، والاعتدال في الانفعالات وردود الأفعال، والترفع عن الصغائر، وحسن التعامل مع الأحداث والوقائع والأشخاص . ويخطر لي وأنا أتحدث في موضوع الحكمة مفهوم آخر معروف في علم النفس وهو النضوج العاطفي أو الوجداني، حيث يبدو أن جزءاً كبيراً من الحكمة نجده في النضوج، وإن شئت فلنقل أن جزءاً كبيراً من النضوج نجده في الحكمة، فالناضج عاطفياً في علم النفس يتسم بسمات متعددة منها الاتزان، وعدم الميل إلى الاندفاع، والقدرة على التعامل الحصيف مع الواقع، وتتصفُ استجاباته بالتناسب مع المثيرات، وبعدم الإلحاح على الاشباع الفوري للرغبات سعياً نحو الحصول على أهداف أبعد منالاً وأفضل، إضافة إلى القدرة على الاستفادة من التجارب، والقدرة على التكيّف مع البيئة الاجتماعية والطبيعية، وفي كل ذلك بالتأكيد شيء كثير من الحكمة . وربما كانت الكتب العديدة التي أضحت تزخر بها المكتبات، والتي تدور في موضوعاتها حول تطوير الذات وتحقيق النجاح والتفوق والسعادة، وترسم للقارئ صورة السلوك الأفضل في البيت والعمل وفي شتى المجالات وفي التعامل مع الرئيس والزميل والمرؤوس والزوج والأبناء، أقول : ربما كانت تلك الكتب مثالاً للبحث عن الحكمة ومحاولة صياغتها مستندة إلى العلم والتجربة والتأمل . يضاف إلى ذلك أن كثيراً مما تدعو إليه قواعد علم الإدارة هو أشكال من الحكمة، فهل ثمة ما هو أكثر حكمة من دعوتها مثلاً إلى عمل الشيء الصحيح بطريقة صحيحة من أول مرة ؟ أو دعوتها إلى الحصول على أفضل المخرجات باستخدام أقل المدخلات ؟ أو ما إلى ذلك . إن لفظ (الحكمة) لم يعد مستخدماً على نطاق واسع في حياتنا المعاصرة، أو ربما لم يَعُدْ اسماً يطلق على كثير مما يدخل في نطاق الحكمة وفقاً لمفهومها الذي تقدم، لكن وفي كل الأحوال، فإننا فـي عصر أحوج ما نكون فيه إلى (الحكمة)، فسِمَةُ هذا العصر هي تعدد الخيارات، وزيادة الضغوط، وسرعة التغيّر، والتعقيد في العلاقات، والتعامل مع كل ذلك يحتاج بلا شك إلى مزيد من (الحكمة) .