قرأت لك - غراب البين

البلد : نقاط : 200490 تاريخ التسجيل : 01/01/1970

قرأنا مؤخراً في ورقة من اوراق التقويم الأردني الهاشمي الصادر عن مكتبة الشباب في عمان عن طائر الغراب بعنوان (غراب البين) ما يلي: العرب تتشاءم من الغراب، لذا فقد اشتقوا من اسمه الغربة والاغتراب والغريب.
وتسمية الغراب بهذا الاسم جاءت من لونه الاسود لقوله تعالى: وغرابيب سود. وقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ''ان الله تعالى يبغض الشيخ الغربيب'' أي الذي يخضب شعره بالسواد. وسمي الغراب بغراب البين لانه (بان) عن نوح عليه السلام لما وجهه ليأتيه بخبر الماء، فذهب ولم يرجع وسمي فاسقاً لانه فسق عن امر سيدنا نوح، ولهذا يقال انه قد احل قتله وفي الحرم في الحلّ وكل غراب يسمى غراب البين.
وفي مراجع اخرى.. ان نوحاً عليه السلام عندما بعثه من السفينة ليأتيه بالخبر عن اليابسة انه وجد جيفة فوقع عليها، فدعا عليه نوح بالخوف.. لذلك فان الغراب لا يألف البيوت.
اما عن قصة قابيل وهابيل والغراب فقد ورد ان قابيلاً عندما قتل اخاه هابيل حمله بعد ذلك وهو لا يعرف ماذا يفعل به حتى بعث الله غرابين اخوين فاقتتلا.. فقتل احدهما صاحبه فحفر له ثم جثا عليه التراب.. ليريه كيف يواري سوأة اخيه ويدفنه.. فاعترى قابيل الندم كما قال الله تعالى في كتابه العزيز :''يا ويلتي اعجزت ان اكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة اخي'' صدق الله العظيم''.
وفي كتب الادب العربي القديم نقرأ بعض الاشعار والمواقف عن الغراب مثل: ''إن الغراب وكان يمشي مشية.
فيما مضى من سالف الأحوال.
حسد القطاة ورام يمشي مشيها.
فأصابه ضرب من العُقال.
فأضل مشيته وأخطأ مشيها.
فلذاك سموه أبا المرقال''.
والعقال هو عوج قوائم الدابة. اما ابو المرقال فهو الناقة المسرعة وسموه بذلك استهزاءً به . ورأى مالك بن دينار يوماً حمامة مع غراب، فعجب في اتفاقهما وليسا على شكل واحد.. فلما مشيا اذا هما اعرجان فقال: من ها هنا اتفقا.
وقال اسحق الموصلي: كان لي وانا صبي عقعق ''غراب'' قد ربيته، وكان يتكلم بكل شيء سمعه، فسرق خاتم ياقوت كان لأبي، وطلبه فلم يقف له على خبر.. فبينما انا ذات يوم في دارنا اذا ابصرت العقعق قد نبش ترابا فاخرج الخاتم منه، ولعب به طويلاً ثم رده فيه ودفنه، وجئت به الى ابي فسر بذلك وقال في العقعق'' اذا بارك الله في طائر
فلا بارك الله في العقعق
قصير الذنابي طويل الجناح
متى ما يجد غفلة يسرق
يقلب عينيه في رأسه
كأنهما قطرتا زئبق
اما اطرف ما قرأت حول هذا الطائر للكاتب محمد مستجاب في كتابه (نبش الغراب) فصل من فصوله كان بعنوان ''الغراب رمز الحذر والتوجس والتشاؤم والليل الحالك'' ما يلي: اول ما عرفناه فور هبوطنا الى الارض بعد تجربتنا المؤلمة مع ابليس والثعبان والتفاحة في الجنة، ولا يزال الدرس الذي القاه على قابيل (كي يحفر حفرة يدفن فيها اخاه القتيل) ماثلا شاخصاً في الاهرام والقبور والشواهد والاقبية والسراديب والنواح على رأس الراحل.
الغراب له ذكاء سمسار وسيط، وحذر جاسوس، وملابس فيلسوف، واشارات قائد اوركسترا.. وهو اول طائر تدثر بدرجات اللونين: الاسود والرمادي كأنه منتزع من لوحات الرسامين.
ويضفي العرج القديم على الغراب سيماء (تيمورلنك)، وايهاب بطل موبي ديك للروائي الاميركي (هرمان ميلفيل) او ابراهيم المازني.
والغراب يحب النخيل والشجر ويكره الصحاري والصمت ونباح الكلاب.. ويتقد بالحماس والمرح اذا ما امن الى جماعة او وكر او عش مهجور، وحين يحوم في الجو تتلبسه حالة ناقد معاصر لمح كتاكيت النصوص الادبية، ينقض عليها، ويقتنص اضعفها، وتظل قأقأته تملأ الجو نحيباً وانتحاباً ونصراً.
والعرب القدامى يزعمون ان اسم الغراب يرتبط ارتباطاً مباشراً ومأساوياً بالغربة والاغتراب ثم بالشؤم والتشاؤم والتوجس من المجهول.
وفي كثير من قصائد الهجر يقف على ناصيتها بصفته غراب البين، وتراهم لا يثقون به ولا يرتاحون لمشيته العرجاء، (ومن يكن الغراب له دليلاً ? يمر به على جيف الكلاب) ويضربون المثل في المستحيل او التحدي حينما يقولون: لا افعل كذا حتى يشيب الغراب. وتتجمع الغربان حول معامل الكتاكيت ، ومطابخ المعسكرات وتجمعات الاحزاب، ومرابط البقر وسرادقات التأييد، وفي دار الادباء ونادي القصة بوسط القاهرة!!!.
وكان ادغار الن بو الاديب الاميركي وصاحب القصص المرعبة والغامضة مغرماً بالغربان وبالوانها الحالكة بالرموز.
ويقال ان الغراب اول طائر لمح اليابسة من فوق صاري سفينة نوح عليه السلام عند بداية انخفاض منسوب مياه الطوفان، وكانت قأقأته اول بشير عندما حط على اول ارض، ومع ذلك لم تحسب له هذه البشارة، وظل بصوته الخشن ونظرته الحذرة يثير في النفوس القلق وعدم الاطمئنان.. ربما لهذا السبب نجد ولعاً لدى الجماعات البدائية بالتهام صغاره وكباره في بعض الاحيان، وقد اطلق الناس عليه صفة (الاعور) مع انه صافي العين حاد البصر.. ويرجع الجاحظ هذه التسمية (الاعور) تأكيدا لتشاؤمهم وتطيرهم منه. ويروى ان اصابته بالعرج جاءت نتيجة لتقليده مشية القطاة.. وضربوا به المثل في من يقلد غيره دون ضابط او ادراك، وربما يرجع كل الذي شاب علاقة الغراب بالناس الى موقف الفراعنة المصريين منه.. فليس هناك اثر لرسم له فوق حوائط المعابد والقبور.. رغم كثرة ما رسموا عليها من طيور ابتداء من ابي قردن والنسور والصقور حتى البط والاوز وصغار الدواجن.

منقول