موضوع: قرأت لك .. رسالة الغفران السبت أكتوبر 25, 2008 9:05 am
قرأت لك .. رسالة الغفران
كتاب (رسالة الغفران) لمؤلفه الشاعر الحكيم والفيلسوف العربي الكفيف (أبو العلاء المعري) يعتبر من الآثار الادبية العربية الفكرية الخالدة التي ذاع صيتها في العالم كله!!. فقد ألف ابو العلاء المعري هذه الرسالة المدهشة وقد تجاوز الستين من عمره حيث أنضجته الايام بتجاربها ومصائبها وكشفت عن أشواقه المكبوتة واحزانه المطوية وجراحه التي لم تندمل قط ورسالة الغفران هي عبارة عن رحلة خيالية الى العالم الآخر.. الى الجنة والجحيم كما تمثلهما ابو العلاء المعري حيث كانت رسالته تلك (رسالة الغفران ردا على رسالة ارسلها له اديب من حلب هو ابن القارح وهو أديب معاصر لابي العلاء المعري). وعن سبب تأليف المعري لرسالة الغفران هناك حكاية وهي ان احدهم كتب رسالة الى ابي العلاء المعري وارسلها مع ابن القارح!! لكن ابن القارح واثناء سفره ضاعت منه هذه الرسالة!! فكتب رسالة حارة من بنات افكاره يعتذر فيها لابي العلاء عن سرقة أو ضياع الرسالة التي ارسلها معه هذا الشخص وانتهز (ابن القارح) هذا الموقف فكتب من ضمن اعتذاره مواضيع أخرى يعرض فيها عظيم ثقافته وعلمه وأدبه من خلال هذه الرسالة ويتحدث فيها أيضاً عن كبار شيوخ العصر واستطرد فيها حيث حمل على الزنادقة ورقيقي الدين حملة قاسية.. الخ. وعندما وصلت رسالة ابن القارح الى ابي العلاء المعري في معرة النعمان أعجب فيها وقرر ان يرد عليها بأحسن منها.. وقد أبدى فيها مستعرضا ثقافته الواسعة وعلمه المتدفق وفلسفته في الحياة ونظرته وخياله الواسع المبدع.. فقد تصور ابو العلاء المعري ان الله قد غرس لابن القارح شجراً في الجنة، والولدان المخلدون في ظلال تلك الشجر قيام وقعود يقولون: نحن وهذا الشجر صلة من الله لابن القارح. وفي دراسة للدكتورة بنت الشاطىء تقول عن رسالة الغران ان أبا العلاء المعري قد تفنن فيها بوصف انهار العسل والخمر واللبن التي تجري في أصول هذه الاشجار في الجنة. ويتمثل المعري صاحبه ابن القارح وقد استحق الرتبة العالية في الجنة، واصطفى له ندامى من أدباء الفردوس: كثعلب والمبرد والاصمعي ويونس بن حبيب وسيبويه والكسائي وأبي عبيدة.. أما الملائكة فيدخلون عليهم من كل باب: سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار. وتهش نفوس الندماء للعب يقذفون الكؤوس في أنهار الرحيق وهم يتمثلون بأشعار (الاعشى) في موقف كهذا، ويتمنون لو انه اسلم في الدنيا، كي يكون معهم في مجلسهم هذا. ثم يخطر لابن القارح ان يتنزه فيركب نجيباً من نجب الجنة، ويمضي بين كثبان العنبر متمثلاً ببيتين للشاعر الاعشى فيهتف هاتف: أتشعر أيها العبد المغفور له لمن هذا الشعر؟! يقول ان القارح: أجل، حدثنا أهل ثقتنا عن أهل ثقتهم.. ان هذا الشعر للأعشى، فيقول الهاتف أنا ذلك الرجل، منَّ الله عليَّ بعدما صرت من جهنم على شفير ويئست من المغفرة والتفكير. فيلتفت اليه الشيخ هاشا باشا مرتاحا، فيجده قد صار شابا أحور معتدل القوام، ويسأله: بم غفر له، فيروي الاعشى ان الزبانية سحبته الى سقر، لكنه استشفع للرسول بقصيدته التي كان قد نظمها فيه، ومضى ليسلم لولا ان صدته قريش وحبه للخمر، كما استشفع بانه كان في الجاهلية الجهلاء يؤمن بالله وبالحساب ويصدق بالبعث، وأيد ذلك كله بأبيات من شعره فشفع له الرسول: وأدخل الجنة على الا يشرب فيها خمراً. ويستأنف الشيخ رحلته فيرى في رياض الجنة قصرين منيفين، وعلى أحدهما لافتة مكتوب فيها: هذا القصر لـ (زهير بن ابي سلمى) وعلى الآخر: هذا القصر لـ (عبيد بن الابرص الاسدي) فيلتمس لقاءهما يسألهما: بم غفر الله لهما؟! فيجد زهيرا كالزهرة الجنية كأنه ما عرف الشيخوخة ولا سئم تكاليف الحياة!!. ويحدثه زهير عن سبب مغفرة الله.. فقد كان مؤمنا به، وقد أوصى بنيه عند الموت: ان قائم يدعوكم الى عبادة الله فأطيعوه ولو ادرك محمداً (صلى الله عليه وسلم) لآمن به. ويتنادمان حيناً، ثم يمضي ابن القارح للقاء عبيد بن الابرص فيقول له: لعلك تريد ان تسألني بم غُفر لي؟! أخبرك اني دخلت الهاوية وكنت قلت في أيام الحياة: من يسأل الناس يحرموه وسائل الله لا يخيب وسار هذا البيت الشعري في آفاق البلاد فلم يذل ينشد ويخف عني العذاب حتى اطلقت من القيود والاصفاد، ثم كرر الى ان شملتني الرحمة بركة ذلك البيت، وان ربنا لغفور رحيم. ويكون بينهما حوار ادبي شائق يختمه (عدي) بدعوة صاحبه الى الصيد!! فيخاف ابن القارح - ولم يكن في الدنيا يركب الخيل - ان يقذف به الفرس على صخور زمرد فيكسر له عضداً أو ساقاً فيصير ضحكة في أهل الجنان، لكن (عديا) يبتسم ويقول: ويحك!! أما علمت ان الجنة لا يرهب لديها السقم ولا تنزل بسكنها النقم؟!. أما في جحيم الغفران واثناء تجوال ابن القارح هناك فلا يكاد يبلغ (النار) حتى يرى (إبليس) وهو يضطرب في الاغلال والسعير، فيحمد الله لما رأى، ويدور بينهما حوار يسأله فيه ابليس عدة أسئلة من ضمنها مثلا: ان كانت الخمر قد ابيحت لأهل الجنة؟! كما يسأله عن (بشار بن برد) الذي كان يفضل ابليس على بني آدم!! فلا يسكت من كلامه الا وبشار في اصناف العذاب، يغمض عينيه حتى لا ينظر الى ما نزل به من النقم، فيفتحهما الزبانية بكلاليب من نار. ويحزن الشيخ بعذاب بشار، ويحدثه حيناً، ثم ينصرف عنه ويطلب لقاء امرىء القيس ثم عنترة العبسي ثم علمقمة بن عبدة ثم عمرو بن كلثوم ثم الحارث اليشكري ثم طرفة بن العبد وأوس بن حجر وأبا كبير الهذلي وصخر العني والأخطل.. ويحاورهم جميعا ناقدا مستنشدا سائلا مترحما راثيا حتى اذا هم بالعودة الى الجنة ذكر انه ما سأل عن مهلهل الثعلبي ولا عن المرقشين وانه اغفل الشنفري وتأبط شراً.. فيرجع طالبا الى خزنة النار ان يأتوه بهم ليحدثهم عما في نفسه. وفي العودة الى الجنة يلقى ابن القارح أبانا (آدم) فيحييه ويسأله عن بعض ما نسب اليه من الشعر، فيقول آدم انه لم يسمع بهذا الشعر من قبل!!! فيقول ابن القارح: فلعلك يا أبانا قلته ثم نسيت!! فقد علمت ان النسيان متسرع اليك، وحسبك شهيداً على ذلك.. والآية المتلوة في (الفرقان) ولقد عهدنا الى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما وقد زعم بعض العلماء انك سميت إنساناً لنسيانك!!. ويطول بينهما الحوار، ويتناول مسألة (لغة أهل الجنة) ثم يختتمه آدم قائلاً: آليت ما نطقت هذا النظم ولا نطق في عصري، وانما نظمه بعض الفارغين، فلا حول ولا قوة الا بالله!! كذبتم على خالقكم وربكم، ثم على آدم أبيكم، ثم على حواء أمكم، وكذب بعضكم على بعض!!. ثم يضرب ابن القارح سائراً في الفردوس فاذا هو بروضة تلعب فيها (الحيات) واذا فيهن الحية (ذات الصفا) التي جاءت في شعر (النابغة الذبياني) واخرى فقهية قارئة عالمة بأسرار العربية، تقول انها كانت تسكن في دار (الحسن البصري) فتلقت منه (الكتاب الكريم) من أوله الى آخره، فيستفسر منها ابن القارح عن بعض القراءات وهي تجيب، ثم تقول انها انتقلت - بعد وفاة الحسن البصري - الى جدار في دار (ابي عمرو بن العلاء) فسمعته يقرأ ورغبت عن بعض قراءات البصري!! ولما توفي (ابو عمرو) كرهت البصرة وانتقلت الى الكوفة فأقامت في جوار (حمزة بن حبيب) وسمعته يقرأ أشياء ينكرها عليه اصحاب العربية. ويبلغ العجب بالشيخ - من فقه هذه الحية وعلمها - أقصاه، وتحس هي ذلك منه فتغريه بالاقامة معها، فانها - اذا شاء - تستطيع ان تنتفض من اهابها فتصير مثل أحسن غواني الجنة!! ولو ترشف رضابها لعلم انها أفضل من الخمر، ولو تنفست في وجهه لاعلمته ان صاحبة عنترة (عبلة) كانت كريهة الفم، ولو.. ولو.. فيذرع منها الشيخ ابن القارح ويذهب مهرولاً في الجنة وهي تناديه وتلح في اغرائه عبثاً!!!.