موضوع: أحداث رمضانية السبت سبتمبر 27, 2008 2:59 pm
احداث رمضانية
السابع والعشرون من رمضان 1373 هجرية
رحيل أحمد أمين.. قنطرة الحضارة
مقابل الدور الذي أداه الشاعر محمود سامي البارودي في نقل الشعر العربي من كبوته في العصرين المملوكي والعثماني، يمكن أن يصنف دور مفكرين من طراز أحمد أمين في النهوض بالكتابة الإسلامية بعد فترة نكوص وغياب استمرت لقرون، والحقيقة أن ظاهرة أحمد أمين تستعصي على التصنيف فهو لم يعمد إلى خوض القضايا المتفجرة في التراث الإسلامي مثل علي عبد الرازق وطه حسين، ولم يكن أيضا مجرد امتداد لذلك التراث ومراجع تقليدية كشأن العديد من الكتاب والمحققين، ولكنه مثل وسطا بين الفريقين وكان صاحب أسلوب خاص ومدرسة متميزة في الكتاب في التاريخ الإسلامي، وإحكام العقل والترجيح المنطقي في العديد من فصوله ومحطاته الحاسمة. في القاهرة ولد أحمد أمين في بيت أحد مشايخ الأزهر سنة 1304 هجري (1886 م) وكان والده الشيخ إبراهيم الطباخ يطمح إلى أن يمثل ابنه امتدادا لمشواره العلمي وأن يصبح هو الآخر شيخا أزهريا، وفي السنوات الأولى انصرف أحمد أمين إلى تحقيق مبتغى والده الذي كان يمثل هاجسا طاغيا لدى الأب، فالتحق ولده بالكتاب لحفظ القرآن وتجويده والتعرف على المبادئ الأساسية للمعارف التي تؤهله للالتحاق بالأزهر للدراسة والحصول على شهادة العالمية. تمكن الوالد من إقناع ابنه أو بالأصح الضغط عليه لهجر المدرسة النظامية والالتحاق بالأزهر واختار الشاب أحمد أمين أن يلتحق بمدرسة القضاء الشرعي، ليتخرج منها سنة 1330 هجري (1911 م) فبدأ حياته العلمية مدرسا بالقضاء الشرعي قبل أن يتولى القضاء في منطقة الواحات النائية لفترة يسيرة، ثم يعود للتدريس ومنه للقضاء مرة أخرى على خلفية عدم اتفاقه مع إدارة المدرسة ويبقى فيه لأربع سنوات. بدأ أحمد أمين يعرف بكفاءته الوظيفية وتحريه للأصول الشرعية في مختلف القضايا التي تعرض عليه، مما أسهم في تطوير إطلاعه على التراث الإسلامي برؤية نقدية، وبالإضافة إلى ذلك تعرف على الأدب الكلاسيكي والمعاصر واستطاع أن يجيد اللغة الإنجليزية وأن يطلع على كثير من المعارف الفلسفية والفكرية والأدبية التي كتبت بتلك اللغة. في منتصف العشرينيات تلقى أحمد أمين الدعوة من الدكتور طه حسين للتدريس في كلية الآداب في جامعة القاهرة، وأثناء تدريسه لمادة اللغة العربية بدأ مشروعه الكبير بدراسة التاريخ الإسلامي بصورة مغايرة فوضع كتابه الموسوعي في هذا الموضوع في ثلاثة أجزاء فجر الإسلام وضحى الإسلام وظهر الإسلام، ولقيت هذه الكتب استقبالا حفيا من قبل الدارسين والمفكرين الإسلاميين، وما زالت تعتمد كمرجع حتى الآن في الدراسات الإسلامية، ويمكن القول بأن الكثير من الدراسات التي اضطلع بها كتاب ومفكرون كبار في العالم الإسلامي استفادت بطريقة مباشرة وغير مباشرة من هذا العمل الموسوعي في الشكل والمضمون. استمر أحمد أمين في الترقي في جامعة القاهرة حتى أصبح عميدا لكلية الآداب ولكن إصراره على توخي النزاهة، ومواقفه الشجاعة أمام القرارات الإدارية والحكومية دفعه للاستقالة والتفرغ للكتابة، وهذا الموقف هو ذروة انتصار روح القاضي على عقلية الموظف في حياة أحمد أمين. لجأت الحكومة إلى استغلال قدراته فعينته في وزارة المعارف مديرا ثم أناطت به مشروع الجامعة الشعبية الذي كان أساسا للفعل الثقافي في مصر، وأسس فيه أحمد أمين أولويات العمل الثقافي الجماهيري المؤسسي، وبعد تقاعده من الحكومة عمل مديرا للدائرة الثقافية في جامعة الدول العربية. رأس تحرير مجلة ''الثقافة'' وفيها كان يكتب بانتظام مقاله ''فيض الخاطر'' الذي تحول إلى كتاب كبير متعدد الأجزاء، كما عمل رئيسا للجنة التأليف والترجمة والنشر والتي قدمت للقارئ العربي مئات الكتب وفتحت بابا للتنوير ما زال يعد نموذجا للعمل المخلص في الحقل الثقافي. اتبع الراحل نهجا متقشفا وصارما في حياته وتربية أبنائه الذين نبغ منهم أستاذ الاقتصاد بالجامعة الأمريكية والمؤلف المعروف في حقل الاجتماع الاقتصادي الدكتور جلال أمين، والمفكر الإسلامي والإعلامي حسين أحمد أمين، وهما من تابعا نهج والدهما وحملا على عاتقهما تكملة مشواره الكبير بعد وفاته في السابع والعشرين من رمضان 1373 هجري (1954 م)، ترك أمين وراءه تراثا كبيرا فبالإضافة إلى كتبه في التاريخ الإسلامي كتب ''قاموس العادات'' و ''مبادئ الأخلاق'' وغيرها.